الديمقراطية ومستحقاتها.. جدولة الأسبقيات

TT

كنت قد تحدثت في المقال السابق عن رضا الشعوب، ونسبته التي تحددها السياسات الداخلية للبلاد، وكيف أن اهتمامنا كمواطنين بالحريات السياسية والاقتصادية، هو بقدر ما توفره لنا من خدمات وحقوق، فكان تقدير بعض القراء لكلامي يصب في ضرورة بيان الآليات، التي من خلالها نصل إلى هذه السياسة الداخلية المعبرة عن مطالبنا، في مقابل من شدد منهم على حرية التعبير، كحق أول للحكم الديمقراطي.

وعودة إلى موضوع الديمقراطية والحقوق، نقول إن الأصل في حقوق الإنسان هو ترابطها، وليس تجزئتها، فلا يكون إعطاء أولوية خاصة لطائفة بعينها، كالحق في العمل أو الغذاء مثلا، على حساب الحق في التمتع بحرية التعبير والاجتماع.

على أن القول بمبدأ تكامل حقوق الإنسان، لا يعني عدم إمكان الخروج عليه متى ما وجد المسوغ المناسب لذلك، بمعنى أن احتياجات الحياة بالنسبة إلى شخص يعيش في مجتمع متطور كالمجتمع الفرنسي أو الأمريكي، تختلف عن متطلبات ذاك الذي يعيش في مجتمع تقليدي، لا زال يتحسس خطاه على طريق التنمية، مما يعني بالتبعية الاختلاف في مضامين بعض حقوق الإنسان، وآليات تطبيقها من مجتمع إلى آخر، ومؤداه أن تحظى طائفة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في مجتمع يعاني من ظروف فقر وبنية تحتية متواضعة، بأهمية تفوق في أولويات تلك الحقوق المتعلقة بالسياسة كحرية الرأي والمشاركة الانتخابية، والحق في إنشاء النقابات والجمعيات، أي الحقوق التي تصنف بضروراتها في المجتمع المتقدم، أو ذاك الذي ينشد التقدم. إلا أن هذا الاتجاه الذي نؤيده لوجاهته المنطقية باعتقادنا، يقابله اتجاه آخر يميل أنصاره إلى الربط بين جميع الحقوق دون استثناء، وأيا كانت الظروف المحيطة بها، انطلاقا من الاقتناع بالعلاقة التأثرية التي ترى أن سوء توزيع الموارد، هو ما أفضى إلى حرمان بعض الأفراد اقتصاديا واجتماعيا، وبالتالي فهم أحوج ما يكونون إلى حرية التعبير، لجذب الانتباه إلى معاناتهم والمطالبة بتحسينها.

وباستعراض هذين الاتجاهين عن أحقية المجتمع في التمتع بكامل حقوقه، أو بالنظر إلى ما يناسبه منها أولا، سنتوجه باستفسارنا إلى رجل من الشارع العربي، ونسأله: «ماذا يعرف عن الديمقراطية؟»، من كبير التوقع أن تلخيص إجابته يكمن في كلمة واحدة «المساواة»... في الحقوق.. في الواجبات.. في ظروف العيش.. في دهاليز المحاكم والإدارات، وفي كل ما اصطلح على تسميته بالديمقراطية الاجتماعية، فإذا حصرته وسألته عن الديمقراطية السياسية، فستراه ومن منطلق همه ووجعه اليومي، يؤيدها إن كان بإمكانها أن تحقق له أهدافه الطبيعية في الحياة، أمّا وقد خبر تاريخها العربي معه، على أنها مجرد وسيلة شكلية للادعاء بتوطيد الحريات العامة، فماذا سيعنيه من أمرها إن كانت ستنتهي كالعادة بمنح الفرص للقلة، مع بقاء حال الشعب على ما هو عليه.

وهذا بالضبط ما عنيته من قولي إن الحقوق الاقتصادية الاجتماعية، غالبا ما تأتي قبل السياسية. فالقضية هي في وضع المجتمع ككل، في تركيبته الاجتماعية ومفهوم الديمقراطية الذي يجب أن يطبّق في البيت، ليخرج منه إلى المدرسة فالمؤسسات المدنية. وباختصار، إنه أسلوب حياة متواصل، يُنشأ لدى الفرد الواعي بحقوقه وواجباته، حتى يعرف في فترة لاحقة ماذا يريد من حقوقه السياسية، وعلى أي أساس ومن أي زاوية.

فمع كل حريات الإعلام ومواسم الانتخابات، هل تحسن وضع المواطن العربي على المستوى الداخلي! ثم وحين نتحدث عن هذه الحقوق السياسية، فلنسأل أنفسنا، كم نسبة الذين يتوجهون للاقتراع والترشيح من المجموع الكلي للسكان؟ وكم من هؤلاء يملك الوعي الكافي لمعرفة الأصلح لتمثيله: وذلك هو ما يقودنا إلى التأكيد على ضرورة ممارسة الديمقراطية بشكلها المستوعب لأوضاعنا، بصدق وواقعية. وعلى العموم، فمن قطع شوطا في المجال البرلماني، لا نملك أن ننكر عليه ذلك، إنما نطالبه بمزيد من الوضوح الإصلاحي والتلاحم الداخلي، وبجرعة أكبر من توعية الجماهير، الذي هو السبيل للاستتباب الأمني السياسي، وليس لزعزعة الاستقرار كما هو الاعتقاد، أمّا من ملك مقومات قومية أتاحت له المضي فعلا في طريق النماء المادي العمراني، في حجم دولة كالسعودية، فيكون الوقت قد حان لمستوى تحديث من نوع آخر، يرتبط بتطوير المهارات التنظيمية والفنية، بحكم الانتماء المهني، ونقصد به وجود كيانات منظمة ومعترف بها رسمياً، ينتمي إليها أفرادها بحكم مهنتهم، فما الغرف التجارية إلا شكل من أشكالها الذي ينبغي أن يمتد إلى باقي النواحي المجتمعية الأخرى، كل حسب هيكلية منهجه، بدءاً بالمدرسة، مروراً بالطب والهندسة والعمال وحتى العقار.

فهذه التجمعات المعلنة، من جهة، هي أفضل وسيلة للتعامل مع قضاياها ومشاكلها، والأقدر على إيجاد الحلول المتخصصة التي تناسبها فيما بينها، بدلاً من إهمالها أحياناً، أو تكديس أروقة المحاكم والإدارات المسؤولة بشأنها، ومن جهة أخرى، هي أفضل مران تطبيقي للمواطن على الانتماء والالتزام، والتعود على التعاطي الحضاري والعلني مع مجتمعه.

والغاية، أن معطيات المجتمع وظروفه المتغيرة، لا يمكن فصلها عن التعامل المتجدد و«المتدرج» مع احتياجاته بعين الصالح العام، والتي تبدأ بالحقوق الاقتصادية الاجتماعية ، فـ«السياسية» التي تكفل لها حمايتها واستمرارها.