العقوبات الذكية.. مَخرَج مُعتم لأزمة تبحث عن حلّ

TT

لم تكن الفترة القصيرة لتسلم الإدارة الأميركية كافية لفحص الملّفين المهمين في منطقة الشرق الأوسط (أزمة الفلسطينيين مع الإسرائيليين والأزمة العراقية). وكانت التقديرات التقليدية هي تأخير فتح الفعالية السياسية الأميركية في المنطقة لما بعد تنظيف وترتيب البيت الأبيض من مخلّفات الانتخابات العرجاء، ومن الموروث الإداري الذي خلّفته إدارة كلينتون تجاه العديد من الملّفات الداخلية. إلاّ أن سخونة أزمة الفلسطينيين وتواصل انتفاضتهم المشروعة ضدّ القمع الدموي للاحتلال الإسرائيلي والتغيّرات السريعة في إدارة الحكم في تل أبيب، والعملية العسكرية الأميركية في قصف العاصمة العراقية بغداد في السابع عشر من فبراير، قد سرّعت في انتقال الخطاب السياسي الأميركي تجاه الملّف العراقي من العموميات إلى التعبير عن اتجاه متشدّد لحين إنضاج موقف دقيق تتعامل وفقه الإدارة بعد أن تكونت لديها تصورات أولية للنصف الأوّل من صورة الأزمة من خلال تقارير طواقم البيت الأبيض في (البنتاغون والخارجية والمخابرات) واستشارات الخبراء الاستراتيجيين في معاهد ومراكز البحوث الخادمة لمؤسسات البيت الأبيض، ليتم تشكيل الصورة الكلّية بعد ربط النصف الثاني بها المتمثل بتصورات بعض العواصم العربية، وهو جزء تعتبره إدارة بوش (الثاني) حيوياً لإحياء جزء من قاعدة (بناء التحالف) التي نجحت من خلالها إدارة بوش (الأوّل) في إدارة الأزمة العراقية عام 91 على الرغم من التباين الجيوسياسي حين كانت القوات العراقية محتلة لأراضي دولة ثانية، إضافة لما خلّفته العقوبات على الشعب العراقي من آثار تجعل حتى بعض العواصم العربية التي ترّحب بزوال النظام العراقي الحالي في حالة من الحرج لقبول سياسة استخدام القوّة لحلّ الأزمة العراقية، خصوصاً بعد التنديد الإقليمي والعالمي الرسمي والشعبي بالهجوم الجوّي الأميركي البريطاني على منطقة بغداد في السابع عشر من فبراير الحالي.

الرئيس الجديد (بوش الثاني) ومنذ اليوم الأوّل لجلوسه في المكتب البيضاوي كان يعلم بأن إدارته جاهزة للتعامل مع مختلف القضايا الكونية الساخنة، ولهذا أطلق شعاره (اعتماد ذراعي الدبلوماسية والقوّة العسكرية) كقاعدة تحريك مزدوجة للتعامل مع ملفّات الشرق الأوسط، ولما كان الذراع العسكري، خصوصاً (البنتاغون) ليس بحاجة إلى فترة تنشيط وتدريب لما يمتلكه من تراكم استراتيجي ولوجوستي، حيث تتواصل فعاليات قوّاته منذ عاصفة الصحراء عام 91 في منطقة الخليج وتغطي قواته الجوّية ثلثي سماء العراق ضمن خطوط عرض الشمال والجنوب، فإن قرار الرئيس الجديد في توجيه الضربة العسكرية على القواعد الجوّية العراقية في منطقة بغداد، لم يكن في الدرجة الأولى لحسابات أمنية تتعلق بحماية الطائرات الأميركية والبريطانية مثلما عبّر الرئيس الأميركي في مؤتمره الصحافي بتاريخ 2001/2/22 بقدر ما كان إعلاناً ضرورياً لفعالية ذراع القوّة، والإشارة العملية إلى توجهات سياسية بإبقاء العقوبات، ستتبلور بعد جولة وزير الخارجية باول للمنطقة، والحصول على دعم العواصم العربية لهذه السياسة.

وإذا كانت الإدارة الأميركية غير مكترثة بردود الفعل للقصف الجوي على العراق، لكنها تشكّل واحدة من مجسّات فحص ما يمكن أن يحدثه استخدام ذراع القوّة في تمرير توجهات السياسة الجديدة التي من المتوّقع أن تتبلور في مجالين، أوّلهما: الفعالية الحرّة للمواقف الأميركية عسكرياً، والتي ستظلّ خاضعة للحسابات الأمنية والاستخبارية السرّية الموضوعة للتعامل مع النظام السياسي العراقي، والثاني: إدارة الفعالية الدبلوماسية داخل مؤسسة مجلس الأمن الدولي، وأعضائه الثلاثة الذين لديهم وجهات نظر متباينة في كيفية تحقيق متطلّبات إيفاء العراق بالتزاماته، ومحاولة الخروج من مأزق التجميد للقرار 1284، والذي تشكل جلسات الحوار بين الأمين العام كوفي عنان والجانب العراقي، أحد جوانبه، فيما تشكل المشاورات الثنائية الأميركية البريطانية الجزء الأهم فيها، حرصاً من الإدارتين على موقفيهما في إبقاء العقوبات والحصار على العراق مع مراعاة ما خلفته العقوبات من تأثيرات كبيرة على الشعب العراقي، في تعطيل حركة نموه الطبيعية في المجالات الصحيّة والتعليمية والثقافية والمعرفية والخدمية، مع احتفاظ الإدارة الأميركية في مراجعتها الحالية على فعالية الثابتين الرئيسيين وهما (حماية المصالح الأميركية في المنطقة، والحفاظ على الصلة المتينة بين أميركا وأصدقائها في المنطقة) حسبما اكده الرئيس بوش في مؤتمره الصحافي بتاريخ 2001/2/22.

إن المرتكز الرئيسي لسياسة إدارة بوش (الابن) هو عدم مغادرة سياسة العقوبات ضد العراق، وهو ما يعني أن سياسة (الاحتواء) ما زالت قائمة ولو إلى حين، لكنها بحاجة إلى تجديد مثلما عبر عن ذلك وزير الخارجية (باول) خلال الفترة القصيرة من تسلمه المسؤولية، وإن هذا التجديد يسعى للتخلّص من الترهلّ والعطب الذي أصاب فراملها خلال السنوات العشر الماضية، وما أحدثته من إيذاء مباشر للشعب العراقي، ومن إجماع عالمي وأميركي على عدم تأثيرها على النظام السياسي الذي صمّمت تلك السياسة لإيذائه، ومن ثّم إزاحته عن السلطة حسب التقديرات الأميركية المعلنة خلال السنوات الماضية.. ولهذا تجد إدارة بوش نفسها ـ ضمن عملية الفحص الحالية ـ متعاطفة مع الأفكار البريطانية التي دخل قسم منها في قرار 1284 التي ترى ضرورة تحرير القطاع الانساني نهائياً من العقوبات وتشديدها على العقوبات العسكرية والسياسية، وقد وصفها الأمين العام للأمم المتحدة عام 2000 (بالعقوبات الذكّية)..

إن القاعدة التي تستند اليها فكرة (العقوبات الذكيّة) هي محاولة الفصل بين قضايا تجريد العراق الكامل من أسلحة الدمار الشامل وبين القضايا الانسانية. ووضع الآليات لمراقبة أية محاولة لاستعادة امكانيات معاودة تصنيعها، ومن بين تلك الآليات عودة لجان التفتيش إلى العراق وإبقاء موارد الأموال بعيدة عن سيطرة الحكومة العراقية. على الرغم من أن عملية الفصل هذه تبدو من الناحية النظرية يسيرة إلاّ أنها معقدة، حيث سيحرم هامش كبير من واردات الاستخدام المزدوج قطاعاً واسعاً من حياة المجتمع في مجالات التعليم والمعرفة والتكنولوجيا الحديثة والخدمات الصحية المتطوّرة في التغذية والمياه والوقاية من الأمراض. إضافة إلى الإبقاء على البنية التحتية للاقتصاد العراقي في حالة التفكك والانهيار.

وإذا ما حصل انضاج لهذه الأفكار البريطانية الأميركية، وتطابق في ما بينها، وهو سيحصل حتماً، فإن مراجعة جديدة وحواراً متوقعاً يمكن أن يجري بين الدولتين وبين الأعضاء الثلاثة الآخرين في مجلس الأمن (روسيا وفرنسا والصين) الذين لديهم اجتهادات أخرى للخروج من مأزق قرار 1284 بالتأكيد على وضع توقيتات لتعليق العقوبات، وتقديم توضيحات لما هو مطلوب من العراق لانجاز متطلبات الإيفاء، وتفسيرات دقيقة للقيود المالية على الحكومة العراقية. فيما يكون لدى الأمين العام خلاصة للمطالب العراقية قدّمت إليه في اجتماع نيويورك، والتي تدعو إلى رفع الحصار بعد الإيفاء بالالتزامات، وعدم القبول بعودة المفتشين الدوليين في ظل المناخ الذي أحدثته الضربة الجوية الأخيرة.

إن ما تعطيه مظاهر المشهد الحالي من دلالات تقول بالعودة إلى بداية الشوط الذي امتدّ لعشر سنوات مع فعالية لذراع القوّة العسكرية الأميركية، وقد تقول افتراضات لما وراء المشهد باحتمال تبلور صفقة تقنع فيها روسيا وفرنسا والصين الولايات المتحدة وبريطانيا بالقبول بمقترحات تكون مقدّمتها الرئيسية إلغاء منطقتي حظر الطيران ثّم عودة المفتشين إلى العراق وفق برنامج زمني واضح ومحدّد، وتحظى بموافقة العراق.

ولكن السؤال: هل تمتلك كلّ من روسيا وفرنسا امكانيات عرض مثل هذه الصفقة؟ وهل ستقبل إدارة بوش التي يبدو أن الصقور يمتلكون فيها ثقلاً أكبر من حمائم الدبلوماسية والمصالح، التعامل مع مثل هذه الأفكار؟

ما يمكن ترجيحه لحدّ الآن هو أن فكرة (العقوبات الذكيّة) ستأخذ طريقها من دون ذكاء لجعل مسرح الأزمة العراقية أكثر سخونة وتعقيداً في ظلّ التهديد أو استخدام القوّة العسكرية، وهو مبدأ سياسي ثبت فشله، ولا يقدّم حلولاً ناضجة تجد طريقها عبر الحوار، ومما يضاعف من تعقيدات الأزمة عدم مغادرة السياسة العراقية لأدائها الذي جلب الكوارث، وإيقاعاتها التعبوية والإعلامية التي تبقي العراقيين في محطات الانتظار للمجهول من دون أن تبحث عن سبل واقعية جريئة تضع الأزمة العراقية في الحاضنة العربية على ما تحمله من عناصر مفككة، لكنها الملجأ الوحيد لوقف نزيف الجرح العراقي. ومن دون ذلك لن يأتي ما يسّر العرب والعراقيين..

[email protected]