لعنة جنيف تطارد حركة الإسلام السياسي في السودان

TT

جنيف، كانت ولم تزل المكان المفضل لحركات الإسلام السياسي لايداع الأموال، ولابتداع اساليب اسلمة الرأسمالية.. لكنهم بقدر ما جمعوا وحفظوا فيها من أموال اصابتهم لعنتها فحولتهم إلى أشتات، خاصة بالنسبة إلى السودان الذي ابتدرت فيه الحركة تسلم السلطة.. ومن ثم استبشروا بذلك الحكم واعتبروه النموذج الأفضل في العالم والمحسود بالعالم العربي بحسبانه القدوة التي لا تطال! لكن جنيف شهدت خلال اقل من عام تمزقاً في الحركة وبداية مصادمات عبر لقاءين: أولهما في يونيو (حزيران) الماضي، وكان بين زعيم المؤتمر الوطني الشعبي الدكتور حسن الترابي وزعيم حزب الأمة المهدي تسبب في التعجيل بانفجار احتقان الحركة، فأدى إلى انقسامها واستئثار البشير بالسلطة قاطعاً الطريق على ما اعتبره قد يكون تحالفاً بين الترابي والمهدي لاطاحة حكمه وسارع قبل الاجهاز على سلطة الترابي بعقد لقاء مع المهدي في جيبوتي لخلق تواصل بديل! وكل ما ترتب على ذلك الانقسام معروف لكل متابع للشأن السوداني.

وجاء لقاء جنيف الثاني بين السابع عشر والتاسع عشر من هذا الشهر بين اثنين من قياديي حزب الترابي وآخرين من قياديي حركة جون قرنق الشعبية لتحرير السودان وأسفر عن اتفاق من عشر نقاط ليكون محوراً للوفاق والسلام، ومجمل النقاط التي وردت في الاتفاق من الصعب رفضها أو الاعتراض عليها، بل توجب الترحيب بها لكن رد الحكومة كان عنيفاً وقاسياً تجاوز الخطوط الحمراء التي كانت تحرص على عدم تجاوزها، ومنها اعتقال الدكتور الترابي ومعظم قيادات جناحه واحتلال مقر حزبه توطئة لحله واغلاق الصحيفة الناطقة باسمه.

ومثلما كان اللقاء والاتفاق مفاجئاً لغالب القوى السياسية، كانت اجراءات الحكومة بهذه السرعة والعنف مفاجئة ايضاً، لكنها على ما يبدو من الوجهة السياسية الاسلامية اعتبرت ان تلك فرصتها الذهبية لمنازلة الترابي وسحب القواعد الإسلامية من صفه. ومن ثم الانقضاض عليه، استناداً إلى قوانين شرعها هو عندما كان الفقيه الدستوري للنظام، فاستخدمت القوانين على نحو ما للتنكيل به وبحزبه من منطلق ان قانون تسجيل الاحزاب يحرم استخدام العنف وان اتفاقه مع حركة تحمل السلاح يعتبر خروجاً عن النص وهذا ما يبرر حل حزبه، وان تحالفه مع قرنق يعني العمل معاً لاسقاط النظام، ذلكم هو المبرر الظاهر لاجراءات الاعتقال وما استصحبها. اما مسالك الباطن فهي ان النظام يريد ان يجرد الترابي من زعامته الدينية ويؤلب عليه شرائح الحركة الاسلامية بحسبانه تحالف مع قرنق الذي هو عدو الدين، والرافض لتطبيق شرع الله، والداعية للدولة العلمانية وقاتل المجاهدين انصار الدين وما إلى ذلك من شعارات تصب في هذا الاتجاه.

وبدأت أجهزة الإعلام الرسمية، خاصة التلفاز تردد برسم الترابي وصوته كيف كان يدعو إلى الجهاد والاوصاف التي كان يخلعها على قرنق، وكيف انتقل إلى الضد بالاشادة بمصداقية حركة قرنق وحقها والظلم الذي حاق بها مع وجوب عدم التمييز في الدين.

وهذه الحملة التي تصاعدت ضد الترابي فعل هو من قبل ما يماثلها ضد الجناح الحاكم بعد الانشقاق. فقد وصف الرئيس عمر حسن البشير وصحبه بأنهم تنكروا لمبادئ الإسلام وانهم تواطأوا مع حركة قرنق لفصل الدين عن الدولة واستغل هو وجماعته بضراوة مقولة للاستاذ علي عثمان طه نائب البشير في ندوة في جامعة الخرطوم، قال فيها: اذا كانت مسألة الدين عائقاً في حل ازمة الحكم والحرب فيمكن مناقشتها ـ أسوأ استغلال بحسبانها تنصلاً من الاسلام إلى آخره!! هكذا كان المعسكران يتربصان ببعضهما بعضا ويتخذان من المزايدة حول الدين منفذاً للكيد والكيل لبعضهما، وبالتالي فانهما يعقدان فرص الحلول السلمية لقضية الحكم ووقف الحرب في الجنوب. واحسب انهما بقصر نظر شديد يزيدان من ورطة الحركة الإسلامية ككل في ايجاد مخرج لها يتناسب وواقع السودان الذي لن تتحقق وحدته الا في اطار طرح يساوي حقيقة بين الاديان والاعراق والحقوق والواجبات، وانه كل ما حاول فريق منهما الاقتراب من التكيف مع الواقع السوداني انبرى له الفريق الآخر بالتصعيد وحتى التكفير لكأنهما تواصيا عن غير قصد بتدمير حركة الإسلام السياسي، أو تفكيك وحدة السودان! وفي اعتقادي ان الحكومة في المعركة الدائرة الآن قد ارتكبت خطأين رئيسيين، أولهما كان ينبغي عليها ان تأخذ زمام المبادرة من الترابي فترحب بالنقاط الاساسية التي وردت في الاتفاق وتستند اليها في الوصول إلى الوفاق المرتجى وتكون بذلك قد وضعت حداً للمزايدات التي كانت تدور في مثل هذه الأحوال. وطالما بيدها السلطة فانها ستكون في طليعة المحققين للسلام، لكنها للأسف اهدرت هذه الفرصة وظهرت وكأنها الأكثر تطرفاً واعاقة في الوصول إلى السلام.. ذلكم هو الخطأ الأول. اما الخطأ الثاني، فإنها عمدت إلى التعبئة الشعبية الإسلامية ضد السلام مع الحركة الشعبية والعودة إلى تعزيز الشعارات الجهادية التي توحي بانها حرب دينية، في محاولة لتصفية حسابات خلافاتها مع الدكتور الترابي. وكان من المفترض ان تبحث عن ميدان آخر غيره لادارة صراعها مع الترابي أو لتصفية حساباتها معه، لانها باختيارها هذه الساحة تحشر انفها في دائرة قاعدة الحركة الإسلامية وتخسر بكل تأكيد معظم القطاعات الشعبية الاخرى التي لا تعتبر نفسها طرفاً في هذا الصراع، والمهمومة بتحسين فرص معيشتها بوقف الحرب وتحقيق السلام وتوفير الديمقراطية ومراعاة حقوق الإنسان. هكذا تبدو الحكومة انها اضاعت فرصة ذهبية لابراز نفسها بانها تطمح للسلام ولا تعيش اسيرة للماضي تصارع الشق الآخر في زاوية ضيقة تتبدى فيها وكأنها تمثل الصقور.

واذا كانت الحكومة قد رهنت نفسها في خانة الصقور، فان هناك شريحة من الجنوبيين وربما من الشماليين ايضاً يشنون حملة ضد قرنق وحركته باعتبار ان الترابي هو المسؤول الأول عن تحويل حرب الجنوب إلى حرب دينية واليه تنسب الفتاوى الجهادية وما اليها، ولذلك لا ينبغي الاتفاق معه أو الارتكان إلى عهوده ومواثيقه. ويرد ياسر عرمان الناطق باسم حركة قرنق على ذلك بقوله: «لقد تم التوصل إلى اتفاق تسوية في جنوب افريقيا على الرغم من فظاعة ما ارتكبه النظام العنصري، الآن نحاول التوصل إلى اتفاق سلمي مع النظام وقد أفتى الترابي اخيراً في أكثر من ندوة ومحاضرة ببطلان الجهاد الذي تقوم به الحكومة، واعلن انه ضد الدكتاتورية ونحن لن نكون اسرى للماضي لاننا نريد ان نصنع المستقبل»، وقال ايضاً: «انهم يريدون تسوية دائمة للنزاع فاذا كان ذلك اساساً لعمل مشترك فمرحباً بهم معنا»، ويكون ذلك واضحاً ان المجموعة التي تواصل النهج القديم للحركة الإسلامية هي مجموعة البشير وعلي عثمان وأضرابهما.

ولعل في ما قاله عرمان ابلغ رد على الرافضين للتفاهم مع الترابي من جانب الجنوبيين اساساً، اما بالنسبة للآخرين في جانب الحكومة الذين يدينون تعاون الترابي مع قرنق، فقد جاءت في بيان لاحق من موقعي مذكرة التفاهم بين الحركة والترابي هذه الفقرة «محاولات النظام لتهييج العواطف وتصوير مذكرة التفاهم بأنها خيانة للدماء التي ارتوت بها الارض السودانية الكريمة من الطرفين متاجرة رخيصة لان اغلى هدية لكل من فقد عزيزاً لديه في الحرب هي صنع السلام والعبور نحو المستقبل تحت ظله وطي صفحات الماضي الأليمة عبر اتفاق سلام عادل. ومعلوم ان صنع السلام اشق من الحرب. والناس دائماً يصلون إلى اتفاقيات سلام مع خصومهم وليس مع انفسهم وإلا لماذا يفاوض النظام الحركة الشعبية: هل للوصول للسلام أم لتصعيد الحرب؟!».

ومما لا ريب فيه اننا اذا اخضعنا منطق الطرفين في حلبة الصراع بهدف تحديد مَنْ هو الرابح ومن هو الخاسر لخلصنا إلى ان الخاسر الأكبر هو شعب السودان لان ذروة هذا الصراع في محصلتها النهائية هي تأخير الوصول إلى الوفاق وبالتالي استمرار الحرب واهدار المزيد من الدماء والثروات، خاصة ان الحكومة وهي العنصر الاساسي في المعادلة تصعّد الحرب. اما اذا تواضعنا في حصر الكاسب والخاسر في اطار حركة الإسلام السياسي، فان المعادلة لا تبدو واضحة بشكل قاطع لكن على الأرجح ان الحكومة كسبت إلى صفها كل المتطرفين، وان جناح الترابي استأثر بغالبية المستنيرين من غير المنتفعين بالسلطة، فضلاً عن كونه أخذ يتخفف من جل اخطاء حكمه ويلبسها للآخرين الذين لم يعرفوا كيف يردونها اليه، بل اعتصموا زهوا بالاحتفاء بها والتمسك بها باعتبارها عماد الدين.

ويبقى الجانب الاخطر في هذا الصراع هو تداعياته وما يترتب عليها من احتكاك ينذر بصدام مسلح بين الجناحين بعد اعتقال الترابي وما صحب ذلك من مظاهرات وتبادل اتهامات حول اغتيالات سياسية وانقلابات عسكرية!. وفي مثل هذا الجو تبقى كل الاحتمالات مفتوحة لان الطرفين يملكان السلاح والمال والقواعد المنتشرة في مفاصل السلطة، ولهذا فان كل شيء جائز بما في ذلك انفلات الاوضاع وانهيار النظام وصوملة السودان، وانقلاب عسكري ضمن مسلسل الانقلابات التي رزئ بها السودان. ومن غير المستبعد طبعاً حدوث انتفاضة شعبية تطيح النظام على غرار ما حدث في ابريل (نيسان) عام 1984. واياً كان الأمر ما لم يتدراك الوضع سريعاً فان ثمة متغيرات تنتظر السودان وكلها في علم المجهول.

ولا شك ان الاوضاع المضطربة الآن في السودان قد انتكست بآمال الحكومة في جلب الاستثمار، وفي الانفتاح الذي تطلعت اليه، كما انها تعتبر اكبر نكسة في مسالك البحث عن الوفاق لانها كشفت القناع عن تشددها ازاء حل ازمة الحرب والسلام في الجنوب مما سيباعد كثيراً بينها وبين الدول الخارجية التي كانت تتوقع تجاوباً من الحكومة مع الحلول السلمية. وحسب منطق الحكومة المبني على ان حركة قرنق مدعومة من الولايات المتحدة والغرب اجمالاً فان اتفاق الحركة مع جناح الترابي يسحب البساط من تحت اقدامها ويظهرها على انها الجناح المتشدد في الحركة الإسلامية الرافض للتراجع عن اجندة الحرب وفرض افكارها بقوة السلاح، فضلاً عن ان الاعتقالات التي تقوم بها بالجملة وسط المعارضين تعني ان انتهاكات حقوق الإنسان ما زالت مستمرة. وكل هذه الأمور لا تباعد بينها وبين الانفتاح فحسب، بل تصل إلى مرحلة اليأس من تحقيق اي تقدم في السودان في ظل حكمها، مما قد يفضي إلى احد أمرين: إما اقتناع العالم بالعمل على فصل جنوب السودان، وإما دعم المقاومة بشكل اكثر فاعلية للاطاحة بالحكومة.

ومن الواضح تماماً ان حكومة البشير قد اتيحت لها فرص عديدة منذ اطاحتها بالترابي منذ اكثر من عام لتحقق الوفاق الداخلي والانفتاح الخارجي، لكنها لم تحقق خطوة واحدة جادة في ما يتعلق بالوفاق، بل انها اظهرت تماطلا ومراوغة حتى بالنسبة للمهدي الذي راهن اكثر من غيره على الوفاق وقدم مطالب اشبه بما احتوته مذكرة التفاهم التي وقعت اخيراً بين الترابي وقرنق، والتي فجرت كل هذه الازمة، مما يدل على عدم جدية النظام. وكان المأمول ان تنجح المساعي الاريترية التي اظهرت جدية اكثر من غيرها، لكن النظام جدد افتعال ازماته مع اريتريا لاحباط ذلك المسعى الذي اقترب كثيراً من الحل.. وبقيت المبادرة المصرية ـ الليبية وحدها التي يكثر الحديث حولها ولكن بدون نتائج ملموسة تذكر!. وبات من المرجح ان النظام تراوده احلام انه بوسعه وحده ان يستأثر بالحكم، ولهذا ظل يراوح مكانه مستنداً إلى الشريحة التي والته بعد اطاحة الترابي. واذا جاز هذا الافتراض فتلك مصيبة لا محالة على النظام وربما على السودان ايضاً.