ثورة المثقفين: بين مطرقة السلطة ومنجل الأصولية

TT

من هو المثقف؟

لا اريد ان ادخل في متاهة التعريف. لكني لا اقصر «المثقف» على المفكر والاديب، وافضل استخدام مصطلح «الانتلجنسيا»، فهو في تصوري، ينسحب على كل الفئات التي تملك الوعي السياسي والاجتماعي من اكاديميين ومفكرين وادباء وكتاب وتكنوقراط وخلاصة العلماء والباحثين ونخبة الاختصاصيين البيروقراطيين.

الانتلجنسيا ليست طبقة، انها شريحة، ومجرد الاعتراف بانها شريحة مهمة فهي لذلك نخبة اجتماعية ضيقة، لكنها ذات وزن ظاهر وتأثير خفي في حركة المجتمع والدولة والسياسة. ولكونها متميزة بالوعي والثقافة والاختصاص، فمهمتها السعي الى الحقيقة وتبصير المجتمع والزام الدولة بها.

من هنا، كانت الانتلجنسيا ضمير المجتمع ووجدان الرأي العام، على الرغم من ان فئاتها عموما لا تملك قواعد شعبية او اجتماعية، بل هي بحكم ثقافتها او اختصاصها مستعلية على المجتمعات. لكن سعي الانتلجنسيا الفاعلة الى الحقيقة يتطلب الحرية في الفكر والعمل والاداء. ولان الانتلجنسيا لا تملك سلطة تكفل لها الحرية، فهي تنشدها لدى الدولة ولدى قوى المجتمع.

وعندما تتدخل الانتلجنسيا مباشرة في حياة مجتمع متخلف عن الوعي ومغترب عن الحقيقة، فعملها وحركتها يقتربان فورا ومباشرة من السياسة. من هنا احتكاك الانتلجنسيا بالدولة وصدامها مع النظام الذي يحتكر بشكل او بآخر السياسة والسلطة. ومن هنا ايضا صدام الانتلجنسيا مع القوى الاجتماعية والسياسية التقليدية المضادة لحرية الفكر والعقل ولتجديد الوعي.

لقد تنسمت الانتلجنسيا العربية في تسعينات القرن الماضي نسائم انفتاح تهب على العالم العربي مع متغيرات داخلية ودولية جديدة. فقد انهار النظام الشمولي في العالم الشيوعي، وهزم عسكريا في حرب الكويت اعتى نظام عربي مطلق، وغاب قادة احتكروا السلطة والسياسة بقوة التجميد عقودا طويلة.

وتملكت الانتلجنسيا العربية آمال وأمان عريضة وهي تراقب وصول جيل شاب جديد الى مراكز القيادة هنا وهناك. وعبّر هذا الجيل القيادي بصراحة عن طموحه الى التغيير، وتطورت التجربة الديمقراطية في المغرب والخليج، وربما في الاردن ومصر، لتسمح لقوى المعارضة من سياسية واصولية بقدر اكبر من المساءلة والمشاركة. وجاءت الديمقراطية التلفزيونية لتمنح المثقفين فرصة الظهور الصاخب عبر الاثير المستحيل على الرقابة الرسمية الحدودية والبرية، وفتحت الصحف العربية الصادرة خارج الوطن الكبير صفحاتها امام الكتاب والمثقفين، بمن فيهم مثقفو الاقليات العرقية والمذهبية.

كل هذه العوامل والظروف حفزت الانتلجنسيا العربية على التحرك وعلى المطالبة بحريات اكبر واكثر واوسع. ومارس مثقفو الاختصاص وخبراؤه نقدهم للتجربة الاقتصادية، وانضوى مثقفو الفكر والسياسة تحت لواء لجان حقوق الانسان، ورفع مثقفو الادب شعار «المجتمع المدني».

«المجتمع المدني» مصطلح قديم نسبيا غامض في تعريفه ومفهومه الحديث. لكن لندع المفهوم جانبا لندرك انه تعبير مؤدب وخجول عن مطالبة المثقفين بالديمقراطية ودولة القانون والنظام ومجتمع المساواة في الفرص والحقوق والواجبات والحريات والمكاسب.

لست بحاجة الى الدخول في تفاصيل المطالبة بالديمقراطية، فالصحف والاذاعات والتلفزيونات تعج وتضج بأقوال المثقفين وتصريحاتهم وتعليقاتهم ومقالاتهم. انه جو بهيج مليء بالحياة والحيوية والحرارة. انه حجر كبير يلقى في غدير السياسة العربية الراكد الموحل. ولا حاجة لاكرر ما قلته دائما في هذه الجريدة عن ان لا سياسة ولا احزاب ولا حوار.. بلا مثقفين.

قد اكون متحمسا اذا زعمت ان هناك «ثورة مثقفين» في العالم العربي. والثورة لا تحتاج احيانا الى الدماء وطلقات الرصاص والارهاب. والمثقفون بعد فشل الآيديولوجيا الشمولية ليسوا بحاجة الى ادوات القتل، فتكفي الارادة الشجاعة والعقل الحر والالسنة والاقلام للتعبير.

لكن هذه الثورة الشجاعة والخجولة مرت وتمر بأزمة خانقة تسببت بها الثورة المضادة المسلحة بمطرقة السلطة او منجل الاصولية. وتراجعت وتضاءلت الآمال والاماني العريضة الحالمة بالتغيير امام الاتهامات بالتخوين وامام لعنات وصرخات الزندقة والتكفير.

والثورة المضادة تلجأ الى ادوات ووسائل مختلفة لمواجهة ثورة المثقفين. فقد حصد منجل الاصولية في الجزائر وايران وافغانستان اعدادا كبيرة من المثقفين والمفكرين والساسة والاكاديميين. وفي الصراع بين المحافظين والاصلاحيين في ايران يلجأ النظام التيوقراطي الى جهازه الامني لاغتيال المثقفين، والى رصاص الشرطة حينا او احكام القضاء حينا، او لتجييش جماهير الريف المتخلفة ضد المتظاهرين الجامعيين والمدنيين الارفع مستوى في الوعي والثقافة والتعليم.

التصفية الجسدية ليست سلاح الاصولية الوحيد. ففي الكويت تمكنت الاصولية، مستندة الى شرعيتها النيابية ومنابرها ومساجدها، من تعطيل رغبة النظام في منح المرأة حقوقها السياسية. وفي السودان، استطاع الحلف العسكري ـ الاصولي خلال عقد واحد من السنين تغييب الانتلجنسيا الاكاديمية والنقابية عن المشاركة في التحولات السياسية الاخيرة بعدما كانت حاضرة وفاعلة في كل تحرك ضد الحكم العسكري في الماضي. وفي مصر تواصل الاصوليات التقليدية والاخوانية هجمتها المضادة على حرية الفكر والعقل والثقافة مستغلة اباحية بعض الانتاجات الادبية.

مطرقة السلطة الثقيلة في العراق هوت بسرعة على رأس حكومة المثقف سعدون حمادي، وازاحها صدام بسرعة متهما اياها بالرغبة في تبني «الديمقراطية الغربية» بعد الهزيمة في حرب الكويت.

وتأتي المواجهة مع اسرائيل في مقدمة الذرائع التي يستخدمها الجيل القديم في سورية في هجمته المضادة على مثقفي «المجتمع المدني»، معتبرا كل مطالبة بمؤسسات دولة النظام والقانون «شبهة» وراءها «جهات ودول اجنبية» لتدمير «الثوابت الوطنية»، وفي مقدمتها دستور «الحزب القائد» والاستقرار الامني.

الاصولية السياسية والمسلحة لا تحتاج الى مثقفين للحوار مع المثقفين. فثوابتها لا تقبل الحوار والجدل والمناقشة. وكل المثقفين والمفكرين الاصوليين هم خارج الاحزاب والحركات الاصولية، وقد اخفقوا في الاتفاق على تصور مشترك لدولة الاصولية الدينية. وخلال سبعين سنة لم تنتج الاصولية الاخوانية سوى المفكر سيد قطب. وكان هذا في فكره ناقلا لفكر الحصار الأقلوي عند الاسلام الهندي، ومسؤولا عن تفريخ حركات الاصولية المسلحة التي حكمت معه على المجتمع بالجاهلية مستبيحة دمه.

لكن مطرقة السلطة لا تعدم احيانا بعض «مثقفي الزيف» الذين ادانهم جان بول سارتر في ستينات القرن الماضي (جمعت محاضراته في هذا المجال، وترجمت اخيرا في لبنان). فهو يقول عنهم انهم يخدمون السلطة والطبقة المسيطرة في الوقت الذي يتظاهرون بمعارضتها. انهم مع الديمقراطية، لكنهم ضد التغيير! نعم هناك اخطاء وفساد لكن هناك «منجزات»! انهم يتفهمون مثقفي «المجتمع المدني» لكن يطالبون الاجهزة الامنية بدمجهم واستيعابهم في «ورشات السلطة»! لقد الحق الاستاذ صدام بفكره السياسي اخيرا انتاجه الادبي عبر «رائعته» الروائية «زبيبة والملك». ومع زبيبة المثقف صدام يمكن الحاق مثقفي الزيف الاسرائيليين بمثقفي الزيف العرب. فعاموس عوز مثلا، مع «السلام الان» لكنه ضد الانتفاضة التي يعتبرها «عنفا» يهدد أمن الكيان الصهيوني. ولهذا السبب تحول المثقفون الاسرائيليون مع شمعون بيريز الى شارونيين.

من السهل اتهام المثقفين الحقيقيين بالحلم، كما يقول سارتر، فنشدان الحقيقة نوع من المثالية التي تطلب المحال والمستحيل في المجتمع والدولة والسلطة والسياسة. وممارسة القلق من طبيعة المثقف، لذلك فهو متحول ومتقلب وغير مستقر او ثابت على رأي او موقف. وفي غياب قواعد شعبية واجتماعية تساند الانتلجنسيا، وفي غيبة احزاب سياسية فاعلة ومستقلة تؤطر عمل المثقفين ونشاطهم،فمن السهل تطويقهم واستيعابهم سواء كانوا مثقفي السلطة او مستقلين عنها. و«ورشات» السلطة جاهزة لاستضافتهم متى شاءت.

وتراجع ثورة المثقفين امام قوى الثورة المضادة ظاهر وواضح على طول خطوط المواجهة في مشرق الوطن ومغربه. لقد كسب الاتجاه المضاد للتغيير معركة، او عدة معارك، لكن لا احسب انه كسب الحرب بعد، ولذلك فالمواجهة مستمرة وقد تدخلها قوى اجتماعية ودولية اكبر. ولعل الوقت مع الجيل الاصغر سنا، فهو يملك فسحة زمنية اكبر مما يملك الجيل القديم الذي يتوكأ على عصا السبعين، لكن الى متى يستطيع التلويح والتهديد والضرب بها؟! وفي المنطقة الرمادية الخطرة، يقف جيل القادة الجدد، انهم يملكون الارادة والرغبة، لكن من الواضح انهم لا يملكون القوة الكافية للحسم الان لصالح هذا الفريق او ذاك. ربما كانت عواطفم ورؤاهم مع تحرك قوى التحول والتغيير، لكن مصالح نظامهم تشدهم الى العودة للتحالف مع القواعد التي يقوم عليها، سواء كانت حزبية او فئوية او تقليدية.

العودة اسلم. لكن من يضمن على المدى الطويل ان لا يتحرك بخار المرارة المضغوط تحت سطح الاستقرار الرقيق؟