العاجل والآجل في مؤتمر الرياض

TT

إنشاء مركز دولي للإرهاب، يسهل التعاون بين الدول المعنية وتبادل الخبرات وتمرير المعلومات... ربما هذا هو العنوان الأبرز لمؤتمر الرياض الاخير حول الارهاب، الذي يختتم أعماله اليوم.

وهي الدعوة التي اطلقها ولي العهد السعودي، ثم اتبعها بإشارة قوية وردت في الكلمة التي افتتح بها الأمير عبد الله بن عبد العزيز، حول عدم تهاون السعودية مع من يبرر للارهاب او يتعاطف معه.

هذا تطور «عملي» مهم في الحرب على الإرهاب الدولي العابر للحدود والقارات، الإرهاب العولمي المتعدد الجنسيات، اذا اردنا ان نستخدم لغة عصرية.

المؤشرات الأولية حول فكرة هذا المركز، تتجه الى قبوله وتفعيله، فوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أكد أن الدعوة للمركز قد لقيت ترحيبا طيبا، من قبل المؤتمرين، وأن السعودية ستجعل انشاء هذا المركز محل اهتمامها، لو أقر الاعضاء المؤتمرون تنفيذ الاقتراح السعودي.

وأشارت الاخبار الى أن الامر تجاوز القبول، الى البحث في تفاصيل إنشاء المركز وتكييفه القانوني، وعلاقته بالامم المتحدة ومقره، وكان الامير سعود الفيصل قد أكد ان الغرض الرئيس من إنشاء المركز تبادل المعلومات الاستخبارية.

من هنا يتضح البعد «التقني» لهذا المؤتمر، وهو يظهر أيضا من خلال قراءة أسماء رؤساء الوفود المشاركة، والتي يغلب عليها الطابع الأمني، وبدرجة أقل الطابع الدبلوماسي.

ومما لا ريب فيه، ان الحرب على الارهاب، في خطوطها الامامية، هي حرب أمنية واستخبارية، يجب النجاح فيها والظفر بها، ومن اسباب حصول ذلك، ضم وتكثيف الخبرات والقدرات الدولية لانجاح هذه الحرب، مؤتمر الرياض خطوة كبيرة في هذا الاتجاه.

نقول ذلك، ونحن نستحضر الارقام المذهلة التي اوردتها ورقة وزارة الداخلية السعودية، التي قدمت في المؤتمر، وقد تضمنت رصدها ورؤيتها للارهاب في البلاد. الورقة قالت اشياء كثيرة، ومنها أن الارهاب لم يضرب فقط بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001 في أميركا، بل انفجر قبل ذلك وتحديدا في «عام 1995، عندما وقع تفجير في العليا بالرياض موقعاً 5 قتلى و60 مصابا، وبعده تفجير في الخبر اوقع 19 قتيلاً و387 مصاباً». ثم المرحلة الثانية، وبداية شرارتها كانت في «انفجار قنبلة على مصنعها في 18 مارس (آذار) 2003».

وأحصت الورقة عدد الاعمال الارهابية الى هذه اللحظة، فكان الحصاد في مدينة الرياض 17 عملا إرهابيا، وفي مدينة مكة 5 عمليات، وعملية واحدة في المنطقة الشرقية.

هذه الاعمال تسببت بمقتل «37 من رجال الأمن و213 مصابا، إلى جانب مصرع 90 مدنيا وإصابة 507 آخرين. وبلغ عدد القتلى من الإرهابيين 112 قتيلا و20 مصاباً»، أما الخسائر المالية فبلغت 627 مليون ريال.

إذن، ومع حجم الخسائر هذا، يصبح التركيز على الحل الآني، والسريع لكبح هيجان الثور الاصولي، وايقاف النزف، يصبح ذلك أولوية مستعجلة مستحقة. يناقشها ويبحثها أمنيون ورجال مخابرات يهمهم تفعيل حرب المعلومات واحباط مخططات العدو.

ولكن أخشى ما يحذر منه المتابع، أن يتغلب الجانب المستعجل في الحل على الجانب المتأني والمتأمل... والدائم، وهو بحث كيفية القضاء على «جذور الفكر الإرهابي»، الجذور التي لا ترى في العادة، فالجذور دائما تكون تحت التربة ولا نرى إلا غصون وثمار الشجرة ظاهرة للعيون، وتلك هي المهمة التي إذا نجحنا فيها، فسنستطيع القول عندها: ان الحرب قد انتهت، ولكن الآن، ومهما حققنا من نجاحات وبذلنا من جهود رائعة، على مستوى الأمن وتوابعه، فإننا لا نعدو أن نكون قد كسبنا معركة في الحرب، لا الحرب كلها.

ومع أن المؤتمر قد خصص محورا لبحث «جذور الإرهاب وثقافته وفكره»، إلا أننا لا نعلم شيئا عن ما جرى من نقاش فيه، ربما بسبب التعتيم الإعلامي على جلسات المؤتمر.

نرجو أن يكون النقاش في هذا المحور قد لامس جذور المشكلة الثقافية والفكرية، وأنا هنا أعرف ان الارهاب ليس محصورا بالمسلمين، فهناك ارهابيون من ديانات وثقافات اخرى، فالذي اطلق الغازات السامة في انفاق طوكيو لم يكن مسلما ولا عربيا، والذي فجر مبنى اوكلاهوما الاتحادي ما كان إلا أميركيا ابيض مسيحيا، والذي قتل المصلين في الحرم الإبراهيمي في الخليل كان يهوديا متعصبا...

انها مشكلة فكرية تسم بميسمها، كل عقل ديني ودوغمائي متعصب، ومن هنا افهم مقولة ان الارهاب لا دين له ولا لون.

غير أني اعتقد ان اهل الدار أولى باصلاح دارهم من غيرهم، وصاحب الجرح النازف لن يرقأ دمه أن يوجد شخص آخر ينزف مثله، او قريبا منه.

فالذين فجروا وقتلوا وخطفوا في الرياض ومكة، او في الكويت او في المغرب او تركيا او في اليمن او في اندونيسيا او في العراق، او حتى في مدريد ونيويورك وواشنطن، هم مسلمون وعرب، مع بالغ الاسف!

ولذلك تصبح المسؤولية الملقاة على عواتقنا ثقيلة وشاقة، تتطلب الكثير الكثير من التعب والتأمل، والاستعداد لتحمل ألم العلاج ومرارة الدواء، فلا شفاء من دون مرارة.

أولى هذه المرارات «الشافية» ان نفتح صدورنا للنقاش الحر، المنطلق من الحرص على مستقبل بلداننا ومجتمعاتنا كلنا، وابعد من ذلك الحرص على مستقبل حضارتنا برمتها!

ومن هذه المرارات ايضا، الاصغاء، بشكل حقيقي لا رغبوي، الى افكار الارهابيين، او من هم في طور الانضمام الى صفوفهم... الاصغاء اليها مهما تضايقنا منها، وازعجتنا بتصلبها وتطرفها، لنخرج الصديد من مخبئه قبل ان نفكر بالبديل الفكري. صحيح ان هناك حديثا كثيرا عن من «تاب» او رجع بفعل تأثير موعظة او خطبة مضادة لتحريضات اسامة بن لادن ومن معه، هذا شيء طيب وسار، بيد ان ما نعنيه هنا ليس رجوع شاب او كادر بسيط بفعل موعظة مباشرة، ان ما نعنيه هو اعادة تأسيس العقل المستقبل المتلقي، بما يكفل عدم عودة الورم للنمو من جديد، المسألة اكبر من أن تحملها قشة الموعظة.

ومن هذه المرارات ايضا إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، ومعالجة مشكلات البطالة، ووضع المرأة، وتحقيق العدالة في المحاكمات والاعتقالات...

ومع هذا فإنني مقتنع، بعمق، ان السبب الجوهري للإرهاب يكمن في الفاعل الفكري، بدليل وجود أناس يتمتعون بوضعيات اقتصادية جيدة، بل وممتازة في بعض الأحيان، وبدليل انفجار الارهاب في الكويت ذات التجربة الديمقراطية العريقة، وتمكن الإسلاميين فيها، من سلفيين وإخوان، من الحياة السياسية والهيمنة، تقريبا، على مجلس الأمة الكويتي... كل هذه البحبوحة السياسية لم تمنع «عامر خليف العنزي» قائد خلية أم الهيمان، من القول بعد القبض عليه، انه يكفر الحكومة الكويتية لأنها لا تحكم بشرع الله ولذلك قرر مواجهتها بالإرهاب.

إن وجود مناخ سياسي واقتصادي عادل، سيجفف من مستنقعات التجنيد للإرهاب، بلا شك.

وحتى لا يعترض معترض، ويدلي بسبب سياسي خارجي، يتصل بالسياسة الأميركية في المنطقة، فإنني لم اهمله عن جهل، بل لان الحديث عنه أصبح لدى البعض هو البوابة الوحيدة، تقريبا، التي يولج منها لمدينة التفسير الإرهابي... أنا أرى بوابات أخرى، أكبر وأخطر، وأبصر هذه البوابة أيضا.

مؤتمر الرياض جاء في وقته، من اجل تفعيل الحرب العملية على الإرهاب وتنسيقها، وهذا جزء مما ننتظره قد تحقق، يبقى الآن إحداث اختراق حقيقي في فلسفة التفكير القاعدي، وتتبع جذوره في كل مكان وفي أي عمق... حتى تكتمل معادلة الحل.

نختتم بوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، الذي قال في رده على أسئلة صحافية بخصوص تغيير المناهج التعليمية في السعودية: «التطورات الحالية هي ضمن مرحلة جديدة لبناء الوطن على أسس متينة من الحب والإخاء والتعاون والانفتاح على الآخر...».

[email protected]