«الآداب» تودع مرحلتها وزمنها وأعوامها الخمسين

TT

وجهت مجلة «الآداب» نداء الى القراء والمناصرين العرب تقول فيه انها على وشك الاغلاق بسبب الضائقة المادية التي تمر بها، وحثت المجلة الأدبية الرائدة المؤسسات ايضاً على دعمها لكي لا تتوقف قبل ان تكمل عامها الخمسين، وتكرر النداء في اكثر من صحيفة لبنانية وعربية، ولا ادري ماذا كانت ردود الفعل حتى الآن. لكن، لي موقفان من المسألة، اسمح لنفسي بالتعبير عنهما.

الموقف الاول: هو في تقييم «الآداب»: لقد انشأ هذه المجلة العام 1953 الدكتور سهيل ادريس العائد حديثاً من السوربون، ليضع روايته الشهيرة «الخندق الغميق والحي اللاتيني»، ويعبَّر العنوان عن تجربة شاب متدين يعيش (ويعمل في ما بعد) في منطقة محافظة من بيروت القديمة هي «الخندق الغميق»، ذهب للدراسة في باريس وتاه في الحي اللاتيني، او حي المقاهي والجامعات والمثقفين والمتمردين، وقد اصاب ادريس الشهرة على الفور، روائياً وناشراً، واضاف اليهما الترجمة عندما كان اول من نقل اعمال جان بول سارتر الى العربية. ثم انضمت اليه زوجته السيدة عائدة مطرجي في نقل الاعمال الفرنسية الصادرة آنذاك، وخصوصاً مؤلفات البير كامو.

اذن، منشئ هذه المجلة الادبية هو دكتور من الازهر والسوربون، ومترجم لكبار الفلاسفة والكتاب، واديب وروائي، وبالتالي فهو ليس مجرد اديب عادي. وبهذه الصفة، او هذه الصفات مجتمعة، شعر سهيل ادريس ان في امكانه ان «يرعى» المواهب الادبية الجديدة من انحاء العالم العربي، خصوصاً ان المجلات الادبية المتخصصة في مصر اغلقت يومها ابوابها، ودخلت الصحافة القاهرية «عصر الثورة». ولم يكن للآداب منافسون جديون في بيروت تلك الفترة. فقد كانت هناك مجلة «الاديب» التي يصددها رجل واحد، كما كانت هناك ايضاً مجلة «الحكمة»، الا انها كانت لبنانية الطابع والنتاج، وقليلة او نادرة التوزيع، في العالم العربي.

صدرت «الآداب» في مرحلة كانت تدور فيها حرب التحرير في الجزائر، وحرب الجلاء والتأميم في مصر، وحروب الاستقلال في المغرب وعدن. ولذا لم تكن مجرد منبر ادبي وشاعري، بل تحولت الى تيار قومي، او الى جزء من هذا التيار. وراح الشعراء يرسلون اليها نتاجهم من كل الاقطار، وكأنها ميناؤهم الحقيقي وفسحتهم الوجدانية. ودعم الدكتور ادريس هذه الصورة اللماعة عبر دار النشر، التي سماها ايضاً «دار الآداب». واكتفى بنشر الغث من الكتب. وفي مرحلة من المراحل دخل في شراكة لم تطل كثيراً مع نزار قباني.

استمرت «الآداب» في الازدهار وفي الانتشار. ثم خاضت في اواخر الخمسينات واوائل الستينات معركة «الخط القومي» مع مجلتي «شعر» و«حوار»، وانقسم الشعراء والادباء من حولها وحول «شعر». وتحولت المعركة، مثل كل شيء آخر، الى حرب سياسية اكثر منها حرباً ادبية لها علاقة بجودة النص وجماله. وفيما تحولت «شعر» الى منبع «للشعر الحديث» وموقع لرموزه الكبرى: ادونيس، انسي الحاج، شوقي ابو شقراء، يوسف الخال وسواهم، ظلت «الآداب» قلعة الشعر الكلاسيكي مطعماً احياناً ببعض «الشعر الحر».

لم تؤثر حرب لبنان في مسيرة «الآداب» بل بالعكس، وجد الدكتور سهيل ادريس لنفسه ـ ولداره ومجلته ـ في العالم العربي موطناً افسح من الموطن الام. وسافر الدكتور ادريس واقام وتجول كصاحب تيار ادبي، وليس كناشر. لكن ماذا حدث خلال هذه الفترة، اي في العقدين الماضيين، للحركة الادبية وللنشر الادبي في العالم العربي؟

دعونا اذن، ننتقل الى الموقف الثاني: تغيرت في العقدين الماضيين طبيعة النشر الادبي في العالم العربي، مثلما تغيرت طبيعة الفن، مثلما تغيرت حركة الصحافة، مثلما تغير كل شيء آخر. فالصحافة الاسبوعية واليومية اصبحت تحمل على صفحاتها في يوم واحد اكثر مما يمكن ان تحمل مجلة مختصة في شهر. والحركات الادبية في مفهوم الخمسينات والستينات لم يعد لها وجود. والادباء الجدد والقدامى على السواء يفضلون نشر نتاجهم في مطبوعة شديدة الرواج على نشره في مجلة متخصصة لكنها محدودة الانتشار. وهذا هو حال الواقع الادبي في معظم انحاء العالم، وليس فقط في العالم العربي وحده. فالمجلات الادبية التي تصدر في فرنسا هي مطبوعات صحافية محترفة، يقوم على انتاجها فريق كبير من العاملين، وتصدرها شركات كبرى، ولها جمهور واسع يضمن استمرارها، بالاضافة الى انها تتزود بكمية كبرى من اعلانات دور النشر. والمجلات الادبية الباقية او القادرة على الاستمرار، لا تقوم على نشر الشعر او النثر او الخطرات الادبية، وانما على تقديم الكتب ونشر البحوث الكبرى. ولعل مجلة «الكتب ـ وجهات نظر» هي المثال الاقرب. وقد اخذت صيغتها عن اهم مجلة في هذا الحقل: «نيويورك ريفيو اوف بوكس». وقد كان نجاحها على صعيد الانتشار العربي، دليلاً على ان المشكلة ليست في وجود قارئ ام لا، الا انها في الصيغة وفي معطيات المرحلة، فقد كانت «الآداب» صيغة لمرحلة فكرية وقومية وادبية ذهبية، لكنها مرحلة لم تعد قائمة الآن، تماماً مثل ان الجيل الحالي لا يعرف تقريباً ام كلثوم. ولم يعد احدنا يصغي الى اذاعة عربية ويسمع منها اغنية لمحمد عبد الوهاب.

كنت اتمنى لو ان «الآداب» لم تطلق ذلك «النداء الى القراء والمؤسسات». لأنها ليست في حاجة اليه. فإما ان تغير «الآداب» صيغتها وتكوينها وتبحث عن قارئ جديد، وإما ان تدرك ان قراءها وانصارها القدامى لم يعودوا يشكلون مصدراً يكفي لابقائها على قيد الحياة.

مرت مجلات ادبية كثيرة في المأزق نفسه، ووجهت نداءات مماثلة، وتلقت بالفعل مساعدات مكنتها من الاستمرار عاماً آخر او عامين. لكنها عادت في النهاية فاضطرت الى الاغلاق. واذكر بالتحديد مجلة «انكاونتر» التي كانت اهم مجلة ادبية في الغرب، ثم تبين ان السي. اي. ايه تمولها من دون معرفة عدد كبير من كتابها. وبعدما حجبت الدعم عنها اخذت تطلب دعم المفكرين الذين يملكون مقدرة مالية ايضاً. وقد استجابوا فعلاً ولكن ايضاً الى حين. ليس لنقص في مجلة كانت تضم كبار الكتَّاب، بل لأن المرحلة تغيرت، والقارئ تغير، والمناخ الثقافي تغير، والكتَّاب تغيروا، وجمهورهم تغير، وكل قضايا الحرب الباردة التي كانت تعالجها او تثيرها، لم تعد قائمة. وتحاول مجلة «بروسبكت» الآن ملء الفراغ الفكري الذي تركته «انكاونتر»، في صيغة تتناسب مع اهتمامات الناس اليوم، غير انها ايضاً ليست مجلة «ادبية» تنشر نصوصاً تأتيها من المساهمين او من كتاب يختارون هم مواضيعهم ونصوصهم. وانما هي تعتمد على البحاثة والاسماء التي تكلفها كتابة الموضوعات والدراسات.

ربما انتبه الدكتور ادريس الى واقعة شديدة الاهمية متعددة المغازي. فقد كان اكثر الكتب رواجاً الصادرة عن «دار الآداب» مؤخراً، رواية احلام مستغانمي «ذاكرة الجسد»، التي بيع منها الوف النسخ، وتعددت طبعاتها. فماذا يعني ذلك؟ انه يعني ببساطة ان القارئ لم يتخل عن الدار، ولا عن صاحبها، وانما يطلب منهما معاً، نصوصاً جديدة، او نصوصاً مختلفة. ولا اقصد انه يطلب فقط عناوين مثل «ذاكرة الجسد»، بل يطلب نصوصاً حديثة تتفاعل مع عالمه ومع جيله، حتى في نظرته القومية وفي هواجسه الوطنية وفي همومه اليومية.

انني اشعر بالحزن عندما تطوى اي ورقة عليها حبر، وانا آسف جداً لأن ارى 50 عاماً من عطاء «الآداب» يسلم نفسه لليأس. لكنني لست مع اطلاق اي نداء. فالمجلة التي لا تعيش من ذاتها لا تستحق رصيدا مثل رصيد سهيل ادريس او رصيد «الآداب»، والمجلات الادبية العملاقة يجب ان «تموت واقفة مثل الاشجار».