تصريحات كلينتون وأولبرايت بررت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان

TT

أكد رئيس الحكومة اللبنانية السابق الدكتور سليم الحص في توثيقه الجديد لآخر تجاربه في الحكم بين العامين 1998 و2000، والذي أصدره بعنوان «للحقيقة والتاريخ»، ان حكومته قضت على بدعة «ترويكا الحكم» الى الابد وانها اعطت الدليل على ان العملة اللبنانية لا ترتبط بشخص معين، وان اعظم انجاز حققه لبنان في عهد حكومته هو تحرير الجنوب والبقاع الغربي.

كما تطرق الحص الى العلاقة بينه وبين رئيس الجمهورية، وقال «لو كان في لبنان رجل واحد لا طائفي فهو اميل لحود». وقال الحص عن العلاقة بينه وبين سورية: لقد شرحت للرئىس السوري الراحل حافظ الاسد اسباب عدم قبولي التحالف مع الحريري فلقيت منه تفهما وقبولا. وتحدث عن الاجواء السياسية التي صاحبت تكليفه من طرف الرئيس لحود بتشكيل الحكومة:الحريري نصح لحود بعدم تكليفي بذلك لانني حسب رأي الحريري «عنيد ورأسي يابس». واعترف بارتكابه خطأ عندما رحب بخطوة توقيف وزير النفط شاهي برصوميان. كما تحدث عن قصة سقوط الحصار الاسرائيلي لأرنون بعد تسعة ايام من فرضه.

وفي هذه الحلقة يروي الحص قصة الغارات الاسرائيلية المدمرة والتي استهدفت البنى التحتية للبنان.

وفي ما يلي الحلقة التاسعة.

الهجوم الجوي الأول كان الوضع في الجنوب يتدهور. وقد أعلنت المقاومة مساء 23/6/1999 أنّها قصفت موقعاً للجيش الاسرائيلي على الحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية ردّاً على القصف الاسرائيلي الذي استهدف مدنيين في قبريخا وياطر وأدّى الى اصابة ثلاثة بجروح. وقد استهدف قصف المقاومة موقع الرميا في القطاع الغربي للشريط الحدودي المحتل. ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية من نهاريا (شمال اسرائيل) عن مصدر عسكري اسرائيلي أنّ موقعاً عسكرياً اسرائيلياً يقع قرب الحدود مع لبنان تعرّض لقذائف هاون، وأوضح أنّ قذائف سقطت في الأراضي الاسرائيلية قرب الموقع الاسرائيلي، وأنّ أربعة مواقع لما يُسمّى جيش لبنان الجنوبي في الشريط المحتلّ أصيبت أيضاً بقذائف هاون، وزعم أنّ القذائف كان مصدرها مناطق مأهولة في الجنوب مما يشكّل انتهاكاً لتفاهم نيسان. وقعت الكارثة مساء 24/6/1999، اذ تعرّض لبنان لعدوان اسرائيلي مُدمّر استهدف بُناه التحتيّة عبر ثلاث ساعات من غارات الطيران الحربي الاسرائيلي. فطاول التدمير محطّة تحويل الكهرباء في الجمهور، على مقربة من بيروت، والجسور التي تربط بيروت بالجنوب وتربط بين مناطق الجنوب، وقصفت الطائرات الاسرائيلية فجراً محطة بصاليم لتحويل الكهرباء، وضربت أيضاً أهدافاً في بعلبك. فكانت كارثة محققة ليس من حيث الضحايا البشرية والخسائر المادية الفادحة فحسب، بل أيضاً من حيث تسميم الدورة الاقتصادية في لبنان على أبواب فصل الصيف واستهداف لبنان في عافيته وأمنه واستقراره. وكُنّا نراهن على موسم اصطياف يكون من شأنه بعث الحركة في الاقتصاد الوطني اللبناني الذي ما فتىء يعاني من الركود منذ سنوات. فلقد انقضَّ الطيران الحربي الاسرائيلي على محطة التحويل الكهربائي في الجمهور في ثلاث غارات متعاقبة خلّفت وراءها دماراً شبه شامل. وقد نفّذ الطيران الاسرائيلي غارته الثالثة بعد أن هرع الى مكان الحريق رجال الاطفاء لاخماد النيران فأصيب عدد منهم في القصف الاسرائيلي الغادر وكأنما كان هذا القدر من الايذاء متعمّداً. وقد سقط بفعل هذه الغارات ثلاثة قتلى من فوج اطفاء بيروت و15 جريحاً. وقد هرع الى محطة الجمهور نجيب ميقاتي وزير الأشغال وسليمان طرابلسي وزير الموارد المائية والكهربائية، وقد اتصلت بالوزيرين هاتفياً للاطلاع منهما على الوضع. ثم وسّع الطيران الحربي المعادي نطاق التدمير الذي افتعله باستهداف الجسور لتقطيع أوصال الطرق والشرايين الحيوية التي تربط بيروت بالجنوب، فدمّر تباعاً جسر الجية والسعديات موقعاً قتيلين من المارة، فجسر الأولي، فجسر الزرارية، ودمّرت الغارات مبنيين كانت تشغلهما سابقاً مؤسسات مدنية لحزب اللَّه، علماً بأن المبنيين المستهدفين يقعان وسط حي سكني في مدينة بعلبك، موقعة فيهما نحو 30 جريحاً من المدنيين بينهم أطفال ونساء وكهول، وأدّت هذه الغارات الى وقوع أضرار جسيمة في الأبنية المجــاورة. وكانت الحصيلة النهائية للغارات 8 قتلى و 62 جريحاً في كل المناطق المستهدفة. أدليت على الأثر بتصريح قلت فيـه: «انّ ما حصل هو في حجم الكارثة، وهو دليل جـديد على بربرية اسـرائيل التي لا حدود لها. اننا ندعو المجتمع الدولي الى تحمّل مسؤولياته في ردع العدوان الغاشم». وفي القدس المحتلة أعلن مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي المنتخب ايهود باراك أنه لم يشارك في اتخاذ قرار شنّ تلك الغارات على لبـنان، وأنّ باراك أبلغ بهذا القرار بعد اتخاذه. وتذرع الناطق العسكري الاسرائيلي بأن الغارات جاءت ردّاً على استهداف منطقة الجليل وكريات شمونه في شمال اسرائيل لدفعات من صواريخ الكاتيوشا سقطت عليها ظهر ذلك اليوم. وقد غرقت بيروت والمناطق المجاورة في ظلامٍ دامس، وبقي التيار الكهربائي في هذه المناطق شديد التقطع مدة طويلة من الزمن كانت الحكومة تتعرّض خلالها لتذمّر الناس وانتقاداتهم. وكانت وسائل الاعلام تستغل هذا الوضع في حملاتها على الحكومة. وجّه الرئيس لحود رسالة الى اللبنانيين دعا فيها القادرين منهم، مقيمين ومغتربين، الى المساهمة المباشرة مع الدولة في اعمار ما تهدّم. وبعد ساعات من هذا النداء تلقى وزير الصحة الدكتور كرم كرم اتصالاً من الأمير الوليد بن طلال، وهو حفيد المغفور له الرئيس رياض الصلح، أبلغه فيه استعداده للتبرع بتكاليف بناء محولات كهربائية بديلة، وقد نقل الدكتور كرم النبأ فوراً اليّ والى الرئيس اميل لحود. وقد اتصل الرئيس، كما اتصلت أنا، بوالدة الأمير السيدة منى الصلح شاكرين لنجلها الكريم هذه المبادرة الطيبة وهذه الأريحية. وقد لبّى النداء عدد كبير من المواطنين بمبالغ متفاوتة، وكان بين المتبرعين من قدّم مئة دولار. فكانت الحصيلة النهائية للتبرعات المقدمة للدولة تربو على الأربعين مليار ليرة لبنانية. استقبلت السفيرين الأميركي والفرنسي في 2/7/.1999 ولدى خروجه من اللقاء معي صرّح السفير الأميركي بأنّ بلاده تدعم تفاهم نيسان دعماً مُطلقاً، وأنها تؤمن بأنّ التفاهم ومجموعة المراقبة يؤمّنان أفضل آلية وأفعلها لمعالجة التوتر، وأنّ الادارة الأميركية ستتّصل بحكومة باراك بعد تأليفها لتحديد موعد لاجتماع مجموعة المراقبة. وصرّح السفير الفرنسي، ردّاً على كلام لموشي أرينز اعتبر فيه التفاهم مُلغى، فقال انّ هذا تصريح لوزير سـابق، وأنّ تفاهم نيسان سيستمرّ مع حكومة باراك الجديدة. في 6/7/1999 أعلن باراك في خطابٍ ألقاه أمام الكنيست يوم تسلّمه مسؤولياته برنامج حكومته. علّقت على مضمون هذا البرنامج بالقول: «لا أريد أن أكون متشائماً فيما يبدي الكثيرون التفاؤل باحتمال معاودة مسيرة التسوية في المنطقة، ولكنني أُسجّل أنّ باراك لم يَقُلّ انّه سيعاود المفاوضات على المسارين اللبناني والسوري من حيث توقّفت زمن الحكومة العمالية التي كان هو فيها وزيراً للخارجية، وكذلك اغفاله القرار 425 الذي يدعو الى انسحاب اسرائيل من دون شروط، عندما تحدّث عن نيّته سحب قوات الاحتلال الاسرائيلية خلال سنة من لبنان، بل انّه تحدّث عن ضمان الأمن على الحدود الشمالية لاسرائيل». الهجوم الجوي الثاني بث التلفزيون الاسرائيلي مساء 4/2/2000 أن اسرائيل فشلت في محاولة اغتيال أحد قادة «حزب الله». وقال المراسل العسكري للتلفزيون انه «كان يفترض أن تكون الغارة التي شنّتها مروحية اسرائيلية، على سيارة أحد كوادر «حزب الله» خارج المنطقة الحدودية المحتلة، رداً على اغتيال (العميل) عقل هاشم ومقتل ثلاثة جنود اسرائيليين قبل بضعة أيام».

في غضون ذلك صرح الناطق باسم القوات الدولية في الجنوب تيمور غوكسل بالقول: «ان الوضع آخذ بالتدهور منذ نحو ثلاثة أشهر، وفي النهاية قد نضطر الى تغيير أماكن مواقعنا الأكثر تعرضاً».

قرابة الساعة الثانية عشرة والربع بعد منتصف ليل الاثنين 7/2/2000، باشرت اسرائيل بتنفيذ غارات جوية فوق لبنان كانت قد قررتها الحكومة الاسرائيلية الأمنية المصغّرة انتقاماً للضحايا الاسرائيليين الذين سقطوا نتيجة العمليات العسكرية التي قامت بها المقاومة في الجنوب اللبناني.

شن الطيران الحربي الاسرائيلي أولى غاراته على مدينة بعلبك حيث نفّذ ثلاث غارات خلال بضع دقائق مطلقاً نحو 12 صاروخاً استهدفت خصوصاً محطة لتوزيع الكهرباء تغذي المدينة والمنطقة، فأدى ذلك الى انقطاع التيار الكهربائي في المدينة وضواحيها. فقد دُمّرت محطة الكهرباء بكاملها واشتعلت فيها النيران. ثم استهدفت الغارات المنطقة الجردية شرق بعلبك وأطراف المدينة. وقد اصيب في هذه الغارات ما لا يقل عن 12 مواطناً بجروح.

وبعد دقائق أغار الطيران الاسرائيلي على محطة تحويل الكهرباء في دير نبوح قرب زغرتا في الشمال ودمّرها تدميراً كاملاً على دفعتين. فانقطع التيار الكهربائي عن منطقة زغرتا ومناطق واسعة في الشمال باستثناء تلك التي تتغذى من محطة قاديشا.

وقرابة الساعة الأولى الاّ ربعاً ليلاً شنّ الطيران الحربي الاسرائيلي غارة على محطة الكهرباء في الجمهور على مقربة من العاصمة بيروت، وأتبعها بعد نحو عشر دقائق بغارة ثانية. وقد شبّت النيران في المحطة فيما انقطع التيار الكهربائي عن مناطق واسعة في بيروت والضواحي فغرقت في ظلام دامس. ولدى سماعي دوي المتفجرات نهضت من فراشي وأجريت اتصالات مع مصادر الأمن ثم مع المسؤولين في مؤسسة كهرباء لبنان مستطلعاً تفاصيل ما وقع. وكان هدير الطائـرات المعادية، المحلّقة في الأجواء اللبنانية، يُسمع باستمرار.

كانت نذر العدوان قد بدأت تبرز خلال اليوم السابق في اسرائيل. فقد بثت شبكة التلفزيون الأولى، وهي رسمية، والثانية وهي خاصة، صوراً لجنود اسرائيليين ملطخين بالدماء، بعضهم مصاب بجروح خطرة بعد هجوم المقاومة على موقع بلاط قبل يومين. ولعل الهدف من بث هذا المشهد الاستفزازي استنفار الرأي العام الاسرائيلي ضد لبنان تمهيداً لشن اعتداء واسع عليه. واعتبرت صحيفة «معاريف» الاسرائيلية أن بث مثل تلك الصور هو «ضربة فأس تلفزيونية على رأس الرأي العام الاسرائيلي».

أما باراك فكان قد أبلغ في الليلة السابقة كبار المسؤولين العسكريين في حضور رئيس الأركان الجنرال شاوول موفاز، أن «الوضع لم يعد يحتمل وسنرد بقساوة». وقال: «بالطبع سنحدد المكان والزمان للرد، علماً بأنه من حقّنا التحرّك بحرية لضمان أمننا». وعقد باراك جلسة خاصّة لمجلس وزرائه الأمني المصغّر خصصت للبحث في الرد على هجمات «حزب اللـه». غداة العدوان الاسرائيلي الواسع على لبنان تلقّيت اتصالات هاتفية من وزير الخارجية السوري فاروق الشرع، ووزير الخارجية الفرنسي هوبير فدرين، ووزير الخارجية الايراني كمال خرازي، فأطلعتهم على تطورات الموقف الناجم عن الاعتداء، وطلبت اليهم القيام بما ينبغي لمنع اسرائيل من مواصلة اعتداءاتها على لبنان. وألتقـــــــيت صباح ذلك اليوم السفير الأميركي في بيروت ديفيد ساترفيلد والقائم بالأعمال الفرنسي فرانسوا سينيمو فطلبت اليهما نقل صورة ما حصل لحكومتيهما والعمل على ردع اسرائيل عن متابعة اعتداءاتها على لبـنان والسعي لعقد اجتماع عاجل لمجموعة المراقبة المنبثقة من تفاهم نيسان للنظر في شكوى لبنــــان ضد اسرائيل ازاء ما ارتكبت من عدوان.

تواصلت الاعتداءات الاسرائيلية جواً وبراً، وشن الطيران الحربي الذي لم يفارق الأجواء اللبنانية بعد يومين من بدء الغارات المدمرة، غارات متلاحقة، رافقها قصف مدفعي، على أهداف في النبطية وحاصبيا وعلى مواقع في القطاع الأوسط، فخلّفت وراءها كثيراً من الدمار وعدداً من الجرحى. مع ذلك بدت الاعتداءات الاسرائيلية في اليوم الثالث بالانحسار برغم تهديدات وزير الخارجية الاسرائيلية ديفيد ليفي «باشعال أرض لبنان» في حال سقوط صواريخ كاتيوشا على شمال اسرائيل. وما زالت اسرائيل ترفض تحديد موعد لاجتماع مجموعـة المراقبـة المنبثقـة مـن تفاهم نيســان، وبدأت تُسمع من اسرائيل أصوات تدعو الى تعديل التفاهم، وهذا ما يرفضه لبنان رفضاً قاطعاً. وعندما تقدّمت اسرائيل بشكوى جديدة أمام مجموعة المراقبة، فُسِّر ذلك بأن اسرائيل ستعود الى المجموعة في اطار تفاهم نيسان ولكن المسألة هي مسألة توقيت. هدد ديفيد ليفي في بيان رسمي أنه في حال سقوط صواريخ كاتيوشا على شمال اسرائيل «فان أرض لبنان ستشتعل»، وأضاف: «اذا سقطت الصواريخ فان النيران ستدمر مصالح حيوية في لبنان وسيتطلب الأمر سنوات لاصلاحها». وشدد على أن «لبنان يتمتع بحكومة وجيش وعليهما أن يمنعا هجمات حزب الله ضد اسرائيل».

انبريتُ الى الرد على هذه التهديدات بالقول: «ان ما سمعناه من وزير الخارجية الاسرائيلي من تهديد ووعيد ليس جديداً. فهو جزء من الارهاب الاسرائيلي الذي يتعرّض له لبنان بدءاً بالاحتلال وانتهاءً بالقصف والقتل. وهو في تهديداته هذه انما يذكّرنا بذهنية الابادة التي تميّزت بها النازية في زمن هتلر. مرة جديدة نقول ان الحل بكل بساطة يكمن في انهاء الاحتلال الاسرائيلي. تلك هي البداية، أما المقاومة فهي نتيجة الاحتلال والقصف الاسرائيلي وليس العكس. فالكرة اذاً هي في الملعب الاسرائيلي، والحل يبدأ بالعودة الى التزام تفاهم نيسان وصولاً الى تنفيذ القرار 425».

أما الموقف الأميركي فلم يكن منصفاً أو عادلاً، على جاري العادة. فقد صرّح الرئيس الأميركي بيل كلنتون بأن «من الواضح أن الغارات (الاسرائيلية) تأتي رداً على مقتل جنديين اسرائيليين في حادثين منفصلين». وكانت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت قد صرّحت بأن الأحداث بدأت عندما أطلق حزب الله عملياته في الأسبوعين الأخيرين، وأضافت أن «الذي قام به الاسرائيليون هو توجيه رسالة قوية بأنهم لا يريدون التصعيد». ودعت الى عقد اجتماع لمجموعة المراقبة. وهكذا فان تصريحات الرئيس الأميركي ووزيرة خارجيته كان من شأنها تبرير الاعتداءات على لبنان.

استدعيت في 10/2/2000 السفراء العرب لأطلعهم على مجريات الأحداث والطلب الى دولهم العمل على لجم اسرائيل عن متابعة اعتداءاتها والى تقديم المساعدات الى لبنان لاعادة بناء ما دمّرته الغارات. فالتقيت على التوالي سفراء مصر والمملكة العربية السـعودية وقطر والكويت والجزائر وتونس والامارات والسودان وليبيا واليمن. في هذه الأثناء كنت على اتصال مستمر مع أمين عام جامعة الدول العربية عصمت عبد المجيد الذي لقيت منه كل تعاطف وتجاوب.

ومما يذكر أن حفيد لبنان، الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز تبرّع بمبلغ خمسة ملايين دولار لصندوق اعادة بناء ما دمّرته الغارات. وقد توالت التبرعات من أهل الخير من مواطنين لبنانيين مقيمين ومغتربين.

واصلت تحركي الدبلوماسي فدعوت جميع سفراء الدول المشاركة في مجلس الأمن الى عقد لقاء مشترك معهم في ما بدا أنه نسخة عن مجلس الأمن، فحضر السفيران الأميركي والبريطاني والقائمون بالأعمال الفرنسي والصيني والروسي، وهؤلاء يمثلون الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وكذلك السفيران الكندي والأرجنتيني والقائم بالأعمال الهولندي، وقد شارك في الاجتماع الى جانبي، أمين عام الخارجية زهير حمدان ومستشاري الدبلوماسي يحيى المحمصاني. ولدى انتهاء الاجتماع تحدث باسم المشاركين فيه سفير الولايات المتحدة الأميركية.

بعد ذلك استقبلت سفراء الاتحاد الأوروبي ودول أميركا اللاتينية، وقد ضم الاجتماع السفير البابوي والسفراء الكوبي والمكسيكي والاسباني والسويسري والبولوني والتركي والأرمني والبرازيلي والنرويجي والبلغاري والغابوني واليوناني والنمسوي والأسوجي والدنماركي، وممثل الاتحاد الأوروبي، والقائمين بالأعمال اليوغرسلافي والمجري والألماني والروماني والكولومبي.

لدى مغادرتي السرايا الحكومية قلت رداً على سؤال: «الأصدقاء الذين تشاورنا معهم في احتمال لجوء لبنان الى مجلس الأمن نصحونا بعدم التوجّه الى المجلس خشية أن نفاجأ بقرار يساوي بين الضحية التي هي لبنان والمعتدي الذي هو اسرائيل. (وموقف الولايات المتحدة الأميركية معروف). هذا فضلاً عن احتمال تشعب المناقشات بما قد يؤدي الى اصدار قرار قد لا يكون في مصلحة لبنان وقد يكون من شأنه اضعاف القرار 425».

ووجّهت رسالة الى رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان شكرته فيها على الموقف الفرنسي من الاعتداء الاسرائيلي الأخير على محطات تحويل الكهرباء وأثنيت على الجهود التي تبذلها الحكومة الفرنسية لتخفيف التوتر والحؤول دون تجدد الاعتداءات على لبنان. وأكّدت في الرسالة التزام لبنان الثابت تفاهم نيسان كما وضع عام 1996 بمشاركة فرنسية فاعلة. وتمنيت على رئيس وزراء فرنسا تنشـــيط المساعي لحمل اسرائيل على العودة الى المشاركة في اجتماعات مجموعة تفاهم نيسان.

واتجه تفكيرنا نحو دعوة مجلس وزراء الخارجية العرب الى اجتماع يعقد في بيروت ويخصص للبحث في الوضع المترتب على استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأرض اللبنانية ومواصلة اسرائيل اعتداءاتها على لبنان. وكان أمين عام جامعة الدول العربية قد لوّح في أحد اتصالاتي الهاتفيه معه الى هذا الاحتمال وأبدى استعداده للمساعدة في تحقيق هذه الخطوة.

وقد أجريت في هذا الشأن اتصالات هاتفية بعدد من المسؤولين العرب أبرزهم ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ووزير الخارجية السـوري فاروق الشرع، والمصري عمرو موسى، والكويتي الشيخ صباح الأحمد الصباح والأردني عبد الالـه الخطيب والأمين العام لجامعة الدول العربية عصمت عبد المجيد.

ومساءً تلقّيت اتصالاً من الدكتور عمرو موسى أطلعني خلاله على الاتصالات التي أجراهــا مـن جانبه في شأن لبنان. واستقبلت السفير الأميركي الذي سلّمني رسالة من وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت رداً على رسالة كنت وجّهتها اليها قبل أيام. وقد أعربت في رسالتها عن أسفها للهجمات التي استهدفت منشآت مدنية وأبدت قلقها العميق ازاء التصعيد الذي حصل، وأكدت استمرار تأييد الولايات المتحدة لتفاهم نيسان، وشددت على ضرورة التوصل الى تسوية شاملة.

وقد رد الرئيس لحود على التصعيد الاسرائيلي بعنف ظاهر اذ قال: «اذا اسـقطت اسرائيل حصانة مواطنينا ومنشآتنا المدنية فانها تكون قد أسقطت أيضاً حصانة مواطنيها ومنشآتها ومصالحها، ونحن نعتقد أن ضرباتنا ستكون أكثر ايلاماً في هذه الحالة في ضوء تشعب المصالح الاسرائيلية المعروفة».

ووجهت بدوري رسالة جديدة الى أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان ألفته فيها الى خطورة التصعيد الاسرائيلي.

مجلس وزراء الخارجية العرب في ما اعتبر تتويجاً للتضامن العربي مع لبنان اثر الغارات الاسرائيليةالمدمّرة التي تعرّضت لها بناه التحتية، وبخاصّة المنشآت الكهربائية، في أوائل فبراير 2000، وسط تصاعد نبرة التهديدات الاسـرائيلية للبنان، أعلنت جامعة الدول العربية في 23/2/2000 رسمياً نقل اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب المزمع عقده في 11 و 12 مارس 2000، الى بيروت. وقد قررت الجامعة هذه الخطوة الاستثنائية تعبيراً عن دعمها للبنان. وجاء هذا الاعلان بعد مشاورات مكثفة أجرتها الأمانة العامة للجامعة مع وزراء خارجية الدول العربية، وخصوصاً مع الوزير العُماني يوسف بن علوي باعتبار أن سلطنة عُمان تتولى رئاسة الاجتماع طبقاً للقواعد المعمول بها في الجامعة. وأعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية عصمت عبد المجيد في تصريح للصحافيين في القاهرة أنه تلقى اتصالاً هاتفياً صباح ذلك اليوم من رئيس الوزراء سليم الحص يؤكد عقد دورة مجلس جامعـة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية في بيروت وليس في القاهرة. وأوضح عبد المجيد أن «موضوع لبنان والعدوان الاسرائيلي عليه، سيكون أحد المواضيع المدرجة على جدول أعمال الدورة العادية لمجلس الجامعة واتخاذ موقف عربي داعم سياسياً ومادياً للبنان».

وكان احتمال نقل الاجتماع الى بيروت موضع تشاور بيني وبين الأمين العام لجامعة الدول العربية في اتصالات هاتفية متتالية، وكان الأمين العام دوماً محبذاً للفكرة ومشجّعاً عليها. وكان هذا الاحتمال أيضاً موضع تشاور مع كل المسؤولين العرب والسفراء العرب في بيروت في معرض اتصالنا بهم بعد العدوان الاسرائيلي الغاشم.

وقد وصف دبلوماسي مصري «نقل اجتماع وزراء الخارجية العرب الى بيروت بأنه رمزي، معتبراً أنه رسالة الى اسرائيل تؤكد أن كل العرب متضامنون مع لبنان، وأن هذا البلد لن يجد نفسه وحيداً بعد الآن في حال حصول ضربات اسرائيلية جديدة ضدّه».

في غضون ذلك جدّد وزير خارجية اسرائيل ديفيد ليفي تهديداته باحراق لبنان، وقال بنبرة حادة في خطاب ألقاه في الكنيست وبثته الاذاعة الاسرائيلية: «اذا احترقت كريات شمونه فان لبنان كله سيحترق، الدم مقابل الدم، وطفل مقابل كل طفل».

وفي زيارة رسمية قام بها رئيس وزراء فرنسا ليونيل جوسبان لاسرائيل عقد مؤتمراً صحافياً هاجم فيه حزب الله بشدّة متناهية واصفاً ايّاه بالمنظمة الارهابية، ومباهياً بأنه لم يستخدم يوماً عبارة المقاومة اللبنانية في الحديث عن حزب الله.

وفي ردّ مباشر على موقف ليفي وغير مباشر على موقف جوسبان، أدليت بتصريح قلت فيه: «هل لبنان هو الذي يحتل أجزاء من اسرائيل أم أن اسرائيل هي التي تحتل أرضاً لبنانية وتقهر مواطنين لبنانيين وتنكّل بهم؟ هل لبنان هو الذي ارتكب مجازر قانا والمنصوري والنبطية وغيرها وقتل مئات الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء؟ هل لبنان هو الذي يتنكر للمواقف الدوليـة ولقرارات مجلس الأمن وخصوصاً القرار 425؟ في الدنيا عاران، عار قتل النساء وعار قتل الأطفال، وعنصرية ليفي ملطخة بهذين العارين وهي مصرّة على التباهي بذلك. فمبروك له هذا الشرف».

قبل أسـبوع واحد من انعقاد مؤتمـر وزراء الخارجيـة العرب في بيـروت، وتحديداً في 5/3/2000، أقرّ مجلس الوزراء الاسرائيلي في جلسته الأسبوعية خطة رئيس الوزراء ايهود باراك لسحب الجيش الاسرائيلي من الشريط الحدودي في جنوب لبنان بحلول يوليو 2000 حتى في غياب اتفاق مع بيروت ودمشق. وفُسّر هذا القرار في توقيته بأنه محاولة لاستباق قرارات المؤتمر العتيد واجهاضها.

وعشيّة المؤتمر، وتحديداً في 9/3/2000، عقدت قمة ثلاثية في شرم الشيخ ضمّت الرئيس المصري حسني مبارك ورئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. وصدر على الأثر بيان مقتضب عن الرئيس مبارك جاء فيه «أن مشاكل كثيرة حلت وسيعلن بعض الأشياء قريباً»، وأضاف أنه متفائل بالمرحلة المقبلة... وأن عملية السلام سـتستمر الى أن تصل الى مداها». وأعرب عن أمله في أن تعاود المفاوضات على المسار اللبناني والسوري في القريب العاجل. ولقد فُسِّر التجاوب الاسرائيلي المصطنع بأنه محاولـة لقطع الطريق على موقف صارم يصدر عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب. وقد أظهرت التطورات أن التجاوب الاسـرائيلي في شرم الشيخ ما كان الا خدعة اسرائيلية لم تسفر عملياً عن أي تقدّم في المحادثات على المسار الفلسطيني.

وفي اطــار التحضير للمؤتمر التقيت أمين عــام الجامعة غير مرة، واستقبلت في 10/3/2000 في مكتبي في السرايا الحكومية وزير خارجية سوريا فاروق الشرع، والوزير العراقي محمد سعيد الصحاف، والوزير العُماني يوسف بن علوي، والوزير اليمني عبد القادر با جمال. ثم عقدت في اليوم التالي لقاءات مع سائر الوزراء العرب، ومنهم الأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة السعودية وعمرو موسى وزير خارجية مصر وولي عهد قطر. وقد جرى البحث في كل هذه اللقاءات في مضمون مشروع القرار الذي تضمنته الورقة اللبنانية، فأخذنا ببعض الملاحظات التي أبديت حول بنود معينة في مشروع القرار ضمن الحدود التي رأينا أنها لا تنال من فعالية القرار. عقد المؤتمر اجتماعاته في السرايا الحكومية، وافتتح بكلمات ألقاها الوزراء العرب أعربوا فيها عن استنكارهم للاعتداءات التي تعرض لها لبنان، ودعمهم للبنان في مقاومة الاحتلال، والتزامهم مسيرة السلام العادل والشامل. وقد ألقيتُ كلمة لبنان التي عرضت فيها تطورات الوضع المترتب على العدوان الاسرائيلي المستمر على لبنان، وثوابت الموقف اللبناني من مسيرة التسوية، مؤكداً حق لبنان في مقاومة الاحتلال الى أن يجلو المحتل عن آخر شبر من أرضه، داعياً الأشقاء العرب الى دعم لبنان بكل الوسائل المتاحة في مواجهة تحديات المرحلة.

وعندما طرح مشروع القرار الذي اقترحه لبـنان على المناقشة، لم تكن هناك أي اعتراضات تذكر على مندرجاته، باستثناء نص المادتين الثامنة والثانية عشرة من المشروع. فقد اعترض على النص المقترح لهاتين المادتين الوزير الأردني وأيده في ذلك الوزير التونسي.

دان القرار اسرائيل لاحتلالها المستمر لأراض لبنانية، ودان الاعتدءات الاسرائيلية الأخيرة التي استهدفت المدنيين والبنى التحتية، واستنكر التصريحات التي أدلى بها بعض مسؤولي دول صديقة ساووا فيها بين المعتدي والمعتدى عليه، واعتبر أن هذه الاعتداءات شكّلت انتهاكاً لتفاهم نيسان وميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية والاعلان العالمي لحقوق الانسان، وأعرب عن دعم لبـنان في مطالبته بتنفيذ القرار 425 من دون قيد أو شرط، وأكّد دعمه المطلق للبنان في مقاومة الاحتلال وتأييد حقه في الدفاع المشروع ضد المحتل، مسجّلاً أن المقاومة هي نتيجة للاحتلال وليست سـبباً له، وأعلن الوقوف الى جانب لبنان وتوفير الدعم اللازم لتعزيز صموده واعادة اعماره من خلال الوفاء بالالتزامات العربية المقررة في القمم العربية ولا سيما قمة تونس في عام 1979 وقمة بغداد في عام 1990، وشدد على تمسك الدول العربية بعملية التسوية السلمية وفق مبادئ مدريد، متبنياً مبدأ تلازم المسارين اللبناني والسوري ومؤكداً ضرورة الانسحاب من كل الأراضي المحتلة، وأكد على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم ورفض توطينهم خارج فلسطين، ودان عمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب والإبعاد التي تقوم بها اسرائيل، وأيد مسعى لبنان في طلب تشكيل محكمة جنائية دولية خاصة من أجل محاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين الذين ارتكبوا المجازر. واعتبر القرار دورة المجلس مفتوحة وفوض رئيس الدورة دعوة المجلس للانعقاد في حال تكرر العدوان الاسرائيلي على لبنان، وكلّف الأمين العام للجامعة متابعة تنفيذ القرار بالتنسيق مع رئيس الدورة والحكومة اللبنانية.

أما المادة الثامنة فقد نصّت على «دعوة الدول العربية التي تقيم علاقات مع اسرائيل، في اطار عملية السلام، الى اعادة النظر في هذه العلاقات بعد العدوان الاسـرائيلي على لبنان».

وأما المادة الثانية عشرة فقد نصت على «دعوة الدول العربية التي تشارك في المحادثات المتعددة الأطراف الى اعادة النظر في مشاركتها هذه، الى أن يتحقق تقدم جوهري وملموس على جميع المسارات». فقد طلب الوزير الأردني، ومعه الوزير التونسي، تعديل هذين النصين بما بدا لنا أنه يخفف من وقعهما وقد يضيع معناهما. فرفضنا ملتمسين الموافقة على النصين كما وردا. ودار نقاش طويل مع الوزيرين الأردني والتونسي داخل جلسة المؤتمر، فبقينا متمسكين بموقفنا، فالتفت اليّ أحد الوزراء العرب وقال: دعنا ننظر في تعديل النصين حتى لا يكون ثمة تحفظ على القرار من شأنه اضعاف قيمته ومدلوله. فقلت اننا نفضل قراراً قوياً مع وجود تحفظ عليه، على قرار ضعيف من دون أي تحفظ عليه. هنا تدخل وزير خارجية مصر عمرو موسى وناشد الوزيرين الأردني والتونسي أن يسحبا اعتراضهما ويوافقا على النصين كما وردا تعبيراً عن التضامن العربي الكامل مع لبنان. فوافق الوزيران المعترضان. فتوجهتُ اليهما بالشكر والتقدير.

هكذا انتهت مناقشات المؤتمر المتعلقة بالموضوع اللبناني في اليوم الأول من انعقاده. وكان مقدراً أن تمتد المناقشة الى اليوم التالي. فطُلب من أمين عام الجامعة عصمت عبد المجيد تلاوة القرار المتعلّق بلبنان أمـام وسائل الاعلام في ختام اليوم الأول تأكيداً على الاجماع العربي في دعم لبنان. كان المؤتمر بحق تاريخياً شكلاً ومضموناً.

كان تاريخياً بانعقاده في بيروت وبمشاركة جميع وزراء الخارجية العرب فيه من دون استثناء، اضافة الى ولي عهد قطر، وبالاجماع الذي حظي به القرار الذي صدر عنه من دون أي تحفّظ.

وكان تاريخياً بقوة التعبير في قراره عن دعم لبنان في مواجهة العدوان وفي مقاومة الاحتلال بما لا يترك مجالاً للبس أو ابهام. فقد كرس القرار بصراحة ووضوح كليين شرعية المقاومة ومشروعيتها باجماع عربي نادر وحاسم.

أظهر المؤتمر أن لبنان ليس وحيداً ولا يمكن استفراده. فالامة العربية بأسرها تقف الي جانبه. لقد وحّد لبنان كلمة العرب في شأن قومي، وهذا ليس بالأمر الهيّن في ظل الظروف العربية السائدة. وقد شهد لأهمية القرار العربي الغضب الذي برز في ردود الفعل الاسرائيلية، والذي ترجمه قول رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك في جلسة مجلس الوزراء بأن القرارات التي اتخذها الوزراء العرب لا تساهم في الأجواء المطلوبة لاحراز تقدّم في عملية السلام، ولسنا في حاجة الى أي موافقة (على الانسحاب من لبـنان) من جيراننا». ووصف وزير الخارجية الاسرائيلي ديفيد ليفي القرار العربي بأنه متطرف.

ان الانتصار الدبلوماسي المبين الذي حققه لبنان من خلال المؤتمر كان علامة مشرقة في ظل الظروف العصيبة التي كان يعيشها في تلك اللحظات بعد العدوان الغاشم عليه ووسط التهديدات الاسرائيلية المتلاحقة.

الهجوم الجوي الثالث قبل ساعاتٍ من وصول موفد الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن الى بيروت ليل 3/5/2000، أقدمت اسرائيل على اعتداء جديد على المدنيين اللبنانيين العُزّل من دون أيّ مُبرّر أو حتى ذريعة، خارقةً بذلك تكراراً تفاهم نيسان، وهي التي عطّلته عملياً منذ بضعة أشهر عبر مقاطعتها مجموعة المراقبة المنبثقة منه. فكان أن انقضّت الطائرات الحربية الاسرائيلية فجأةً على بلدة حبّوش وقصفت سيارة المسؤول التنظيمي في حركة «أمل» عبّاس محمد حلال المتوقّفة أمام منزله بصاروخ أدّى انفجاره الى وقوع 12 جريحاً واصابة ستّة منازل بأضرار. وقد نسب الى مصدر اسرائيلي قوله انّ الغارة كانت نتيجة خطأ. وأفاد مصدر عسكري اسرائيلي في القدس ليلاً أنّ قذائف هاون سقطت مساءً على موقع عسكري داخل اسرائيل قرب الحدود مع لبنان من دون أن تؤدّي الى اصابات. وأعلن حزب اللَّه مسؤوليته عن اطلاق عشر قذائف أصابت موقعاً اسرائيلياً في الشريط الحدودي المُحتل. ولقد هدّد رئيس الوزراء الاسرائيلي باراك بالانتقام للهجوم الصاروخي الذي شنّه حزب اللَّه على كريات شمونه في شمال اسرائيل حيث أعلن الجيش الاسرائيلي أنّ جندياً لَقِي حتفه في الهجوم وجرح آخر. وقال باراك: «ليس من بلد على وجه الأرض يمكن أن يقبل اطلاق دفعات من صواريخ الكاتيوشا على مراكزه المدنية. لن تسمحّ اسرائيل بحدوث ذلك وسـيتعيّن عليها الردّ، ونحن نعرف كيف نردّ». وذكّر بأنّ الانتقام الاسرائيلي كان شديداً في الماضي «حينما تجرّأ الطرف الآخر على اطلاق صواريخ كاتيوشا على المدنيين». ابتداءً من الساعة الثانية وعشرين دقيقة فجر 5/5/2000، شنّ الطيران الحربي الاسرائيلي غارات على لبنان، في العاصمة وضواحيها وحتى بعلبك والشـمال. وكانت محطّة بصاليم للكهرباء أول الأهداف، فاندلعت النيران فيها، وانقطع التيار الكهربائي فوراً عن العاصمة وعدد من المناطق المجاورة. وكذلك أغارت الطائرات الاسرائيلية على محطة توليد الكهرباء في منطقة البدّاوي على مقربة من طرابلس، وقصفت محطّة محروقات على مدخــل بريتال فــي البقاع حيث وقع عدد من الاصابات بين المدنيين، وقصف أيضاً مستودع ذخيرة للمقاومة في منطقة جرود بعلبك. في ذلك اليوم، وعملاً بما سبق أن اتّفَقت مع الرئيس عليه بأن تكون اجتماعاتنا مع الموفد الدولي مُشتركة حرصاً على وحدة الموقف، عقد اجتماع في القصر الجمهوري مع موفد الأمين العام للأمم المتحدة تيري رود لارسن، شاركت فيه الى جانب الرئيس اميل لحود فتناولنا موضوع العدوان الاسرائيلي الجديد على المنشآت الكهربائية وطلبنا الى لارسن ابلاغ الأمين العام للأمم المتحدة استنكارنا الشديد ودعوته الى العمل على وقف الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان. دعوت في 6/5/2000 السفراء العرب المعتمدين في لبنان الى لقاء مُشترك وضعتهم خلاله في صورة الاعتداءات الاسرائيلية الجديدة التي استهدفت مُجدّداً محطّات تحويل الكهرباء ولفتُّهم الى الأضرار الجسيمة التي تسبّبت بها، وطلبت منهم نقل هذه الصورة الى حكوماتهم من أجل القيام بحملة اتصالات دبلوماسية تردع اسرائيل وتحول دون تجديد اعتداءاتهـا على لبـنان ومنشـآته المدنية. وذكّـرتـهم بالـقرار التاريخي الذي صدر عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في مارس 2000 وضرورة العمل بموجبه. وكنت قد استدعيت في 5/5/2000 سفراء الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن المعتمدين في لبنان فأعربت عن استنكار لبنان الشديد لهذا العدوان الجديد، طالِباً تدخّل دولهم لمنع اسرائيل من مواصلة اعتداءاتها. وقد وفد الى السرايا الحكومية على التوالي سفراء الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وروسيا والصين والقائم بالأعمال البريطاني. وكتبت وزارة الخارجية في هذا الشأن الى سفراء لبنان في دول القرار والى مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة. واتّصلت بالأمين العام لجامعة الدول العربية عصمت عبد المجيد طالباً منه اجراء الاتصالات اللازمة لوقف الاعتداءات الاسرائيلية.

وفيما واصل الاسرائيليون التهديد بمزيدٍ من العمليات ضدّ لبنان، وفيما كان الرئيس الاسرائيلي عازار وايزمن يُعرب عن غبطته بالهجوم الجوي على لبنان قائلاً: «سنغرق عالمهم في الظلام»، بدأت بوادر الانفراج تظهر في 6/5/2000، اذ دعت الحكومة الاسرائيلية مواطنيها في الشمال الى الخروج من الملاجىء والعودة الى منازلهم.