العولمة الشاهينية

TT

يظهر ادوارد سعيد في لقطات متفرقة من فيلم يوسف شاهين «الآخر»، فهو وحمدين الصباحي ضيفا شرف مثلا في الفيلم دورهما في الحياة. وشهوة الفن تتحكم بادوارد سعيد منذ مشاهدته لتحية كاريوكا ترقص بالقاهرة وكان ـ آنذاك ـ صبيا يافعا، اما ظهوره في الافلام فقد تأخر الى عتبات الشيخوخة.

وقد شاء شاهين ان يبدأ الفيلم من جامعة كولومبيا في نيويورك، حيث يقيم البروفيسور ويعلم، ومنذ الجملة الاولى يكشف لك الفيلم ثيمته العامة فالطالبان المصري والجزائري اللذان يدرسان ظاهرة التطرف الديني يستمعان الى حلم البروفيسور بأن تتغير لغة العالم، وان نصل الى يوم نقول فيه «إحنا» بدلا من «هم ونحن».

ولان كل فيلم وان كان سياسيا لا ينجح بغير قصة حب كان لا بد ان يقع الطالب «هاني سلامة» في حب الصحافية «حنان الترك» فهما قمة مصر وقاعها فهي ابنة رجل بسيط ديس بالاقدام في «انتفاضة الحرامية» وهو ابن ثري مصري متزوج من اميركية. ولأمر مفهوم، ومعلوم يتعصب الفن دائما حتى حين يكون شاهينيا لاهل القاع.

وفيلم يوسف شاهين من اوائل الافلام التي اخذت على عاتقها مناقشة قضية العولمة لا في اطارها الفكري والاقتصادي كما يفترض بمخرج من حجم شاهين انما من خلال مجموعة من رجال الاعمال النصابين الذين يقف على رأسهم والد بطل الفيلم (محمود حميدة) وهؤلاء لا يهمهم غير النهب والسلب والرشاوى والسمسرات.

والعولمة ليست بهذا التبسيط المخل وهذا ما يعرفه المخرج جيدا، ويتجاهله لانه يريد ان يصل بفيلمه الى قاعدة اعرض من قاعدة قراء ادوارد سعيد.

وهذا التبسيط لا يضير شاهين فهذا المخرج يكتفي منذ سنوات بالومض والاشارة تاركا التفاصيل للآخرين.

لقد ناقش يوسف شاهين ظاهرة التطرف الديني في فيلم «المصير»، واحس كما يبدو ومع آخر لقطة في ذلك الفيلم الجميل ان المسألة لم تنته بالنسبة له، وان عنده ما يضيفه الى التنوير السينمائي، وهكذا جاء «الآخر» ليواصل دربا عبده جزئيا في «المصير».

ولا اعرف ان كان شاهين قد اطلع قبل ان يبدأ فيلمه على كتاب فواز جرجس «اميركا والاسلام السياسي»، فذلك الكتاب يحاول تبيان الخيط الاسود من الخيط الابيض في صراع المصالح الذي ألبسوه ثوبا حضاريا ليتحول بالمظهر الى صراع حضارات ويركز على العنف الجزائري والمصري ايضا.

وطبعا لا بد ان تذكر تجربة افغانستان كلما تم ذكر الدور الاميركي في تغذية الاصولية، فتلك التجربة اوضحت التقاء مصالح الطرفين في حقبة تاريخية ماضية فرخت العديد من المشاكل للعرب والمسلمين وللغربيين على حد سواء.

وفي الفيلم نجد شقيق البطلة وهو أحد العائدين من افغانستان وقد تورط في العنف غير المقدس وبدأ يبيع خبراته في سبيل تأشيرة وحفنة دولارات، وينسق مع الاميركية ام البطل (نبيلة عبيد) التي حملت حلم السادات ببناء مجمع للاديان في سيناء وهو مشروع نصب دولي يديره زوجها المصري الممسوح الشخصية أمام كل ما هو غربي والذي يريد الخروج من جلده ولونه ويصر على تزويج ابنته من اجنبي ليخلف له اولادا بعيون زرق.

والعولمة لا تدعو جميع رجال الاعمال الى ان يتحولوا الى نصابين ولا جميع السمر والصفر والسود الى البحث عن بشرة حليبية وعيون ملونة، فهي أعقد من التبسيط الشاهيني، وشركاتها العابرة للقارات أقوى من عشرات الدول الصغيرة والمتوسطة.

وحين اختار يوسف شاهين ان يحصرها في هذا الجانب كان يدري سلفا ان الناس لا تذهب الى السينما لتتعلم العولمة انما لتستمتع، وتفهم العناوين العامة للافكار، فمن يريد فهم الجذور التاريخية والفكرية التي خلقت ظاهرة العولمة الحالية يذهب الى كتاب ادوارد سعيد «الثقافة والامبريالية» أما من يكتفي بفهم المسافات الاساسية لمسار الافكار، فيجد الكثير منها عند يوسف شاهين ومن هنا تنبع أهميته، فالفنان بوصلة تومئ وتشير. أما التفاصيل، فهي دائما «على قفا من يشيل».