بدايات أخطاء الإدارة الجمهورية

TT

من المعروف عن النظام السياسي الأمريكي أنه يقوم على حزبين كبيرين يتعاقبان على الحكم ولا يشكلان إلا وجهين لعملة واحدة، بحكم تطابق برنامجهما السياسي سواء على الصعيد الداخلي أو في التعامل الدولي.

ويُعزى تطابق برامج الحزبين إلى ان الشعب الأمريكي اختار لنفسه عبر السنين جملة من الخيارات الأساسية أصبحت موضوع وفاق وطني، وجميع فصائله مؤمنة بجدواها وفاعليتها بحكم أن تطبيقاتها وممارساتها على أرض الواقع كانت وراء نجاح وامتداد النظام الامريكي طيلة ما يزيد على قرنين.

يمكن ان توجد في برنامج الحزبين بعض اللُّوَيْنات التي تُميز أحدهما عن الآخر، لكن لا تشكل فرقا كبيرا بينهما. وحتى المعايير التي تطَّبق على التيارات السياسية الأوروبية لا تنطبق على الحزبين الأمريكيين، حتى ليمكن القول إنهما معا محافظان أو إصلاحيان، وإن كلا منهما يقف وسطا بين اليمين واليسار، ولا حدود تفصل بينهما في خيارات السياسة الخارجية، ولا في خيار الليبرالية الاقتصادية التي لا تحدها عند أي منهما حدود ولا قيود.

التغيير الجوهري التاريخي الذي عرفته الولايات المتحدة كان على عهد الرئيس الديمقراطي فرانكلين دولانو روزفيلت، الذي دشن سياسة الانفتاح والمشاركة في الحرب العالمية الثانية، بعد ان ظلت الولايات المتحدة تعيش طيلة عقود في عزلة. ثم جاء بعده الديمقراطي «جيمي كارتر»، الذي ركز في حملته الانتخابية على حاجة بلاده الى التجديد، وحوَّل الحملة إلى صراع بين قوات التجديد والمحافظة، لكن طيلة الأربع سنوات التي قضاها على رأس البيت الأبيض لم يغير شيئاً في العمق، واقتصر على تغيير الأسلوب، وهو ما لم يلفت إليه النظر، لأن تغييره كان شكلياً ومحدوداً.

من المعروف عن الشعب الامريكي تمجيده للقوة واعجابه بالأقوياء من رؤسائه، وقد أصبح تقليداً متبعاً منذ عهد «كيندي» و«جونسون» ان يكون لكل رئيس منتخب جديد حرب يشنها أو يخوضها ليكتسب بها انبهار الشعب بشخصيته، وهكذا كان لبعض الرؤساء حرب الفيتنام، ومساهمتهم عسكريا في حل أزمة حرب الصومال الأهلية، والغارة الجوية على منزل الرئيس القذافي بالعزيزية بطرابلس، وتَّزعُّم الرئيس «بوش» لحرب عاصفة الصحراء ضدا على العراق، وقيادة «بيل كلينتون» لحرب كوسوفو، ثم ثنائية القيادة بين الولايات المتحدة وانجلترا في حرب ثعلب الصحراء في العراق بوصفها حربا يومية ودائمة، وضرب مصنع الخرطوم بتهمة انه مصنع أسلحة ممنوعة.

وأثناء الحملة الانتخابية التي جرت بين «بوش» و«آل غور»، كان يظهر ان الحزبين المتنافسين لا يختلفان إلا على نقط اقتصادية كنقطة التخفيض من الضرائب، أو اجتماعية كإجازة الاجهاض أو منعه، والمجال الوحيد الذي كان موضوع اتفاق بينهما، هو التقاؤهما على تمتيع اسرائيل بوضعية الدولة المحمية المدللة منهما معا، بل ذهب «آل غور» إلى حد اختيار نائبه من اليهود، وهو ما لم يحصل قط في تاريخ الانتخابات الأمريكية على امتداد قرنين.

أما في السياسة الخارجية، فكانت برامجهما تقريبا متشابهة حتى لا نقول متماثلة، لكنها لم تكن أساس برامج الحملة الانتخابية، لأن المرشح الجمهوري، الذي اشتهر عنه انه لا يعرف كثيرا في السياسة الخارجية، كان يتجنب الخوض في تفاصيلها ودقائقها حتى لا تزلَّ به القدم، ومع ذلك أصدر بخصوص سياسته في الشرق الأوسط تصريحا واضح الدلالة حينما قال انه «سيساند إسرائيل، التي يعتبر حلفها استراتيجيا لا رجعة فيه، ولا مراجعة لأسسه ومقوماته، وانه سيبقي عليها دولة عظمى متفوقة في أسلحتها على الدول العربية والاسلامية مجتمعة»، ثم أضاف: «وسنظل بجانب حلفائنا العرب في دول الخليج».

كان من المنتظر ـ والحالة هذه ـ أن تأخذ الإدارة الجديدة للبيت الأبيض مهلة من الزمن ليدرس الخبراء الملفات، ويعوضوا للرئيس الجديد باستنتاجاتهم عما فاته في تعمق فهم سياسة بلاده الخارجية. لكن فوجئ العالم بإعلان الرئيس الجديد ساعات بعد وضع اقدامه في البيت الأبيض عن مواقف سياسية طبعها التسرع والارتجال، وكان قراره الأول الإعلان عن مناورات جوية عسكرية مشتركة بين اسرائيل والولايات المتحدة جرت في منطقة الخليج، وتورطت فيها الولايات المتحدة، وبدت كأنها مرشحة للمساهمة في حرب ضد المنطقة العربية، وضالعة مع اسرائيل في الإعداد لها. وكان سوء اختيار الملاءمة الظرفية لهذه المناورات، التي كان يمكن ان تنتظر قليلا، وراء اشتعال ردة فعل من الغضب العربي على الولايات المتحدة، إذ كان المظنون في الإدارة الأمريكية الجديدة أن تبدأ عملها السياسي حيال المنطقة العربية بتدابير تؤشر لإيمانها بالسلام وليس للإشعار بالحرب والعدوان.

وكان ثاني القرارات غير المدروسة تواطؤ الولايات المتحدة الأمريكية مع حليفتها الانجليزية على التعجيل بضرب بغداد بالقنابل والصواريخ خارج منطقة الحظر، والإعداد لذلك في سرية كاملة، إذ لم تُحَطْ علما بمؤامرتهما هذه لا هيأة الأمم المتحدة، ولا حلفاء الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى في الاتحاد الأوروبي، وفي شكل غير ملتوٍ ولا متستِّر بادر الأمين العام للأمم المتحدة وزعماء الاتحاد الأوروبي إلى القول إنهم إنما علموا بهذا الحادث الخطير بعد وقوعه، وهو ما يعني أن الإدارة الأمريكية الجديدة ارتكبت خطأ آخر قد يكون مرده هو أيضا الى فقد التجربة. ولو أنها نسَّقت سلفا مع حلفائها كما تفرضه قواعد الدبلوماسية الحديثة لكان رد الفعل أقل استنكارا مما أعلن عنه حلفاء الدولتين الضاربتين للعراق.

ولعل الجديد الذي «أبدعته» القيادة الأمريكية هو وصفها القنابل الملقاة على بغداد بأنها قنابل ذكية، وهو ما يعني أن قصف العراق طيلة السنوات الماضية من قبل «كلينتون» و«بلير» تم بقنابل غبية، وأن الساهرين على تنفيذها كانوا أغبياء، وقد قيل عن «الذكاء» الذي أطلقته الإدارة الأمريكية الجديدة على عمل القصف الجديد ـ كما قالت الادارة الأمريكية نفسها ـ إن عملية القصف ستتمحَّصُ لضرب مواقع الرادارات العراقية المضادة للطائرات الامريكية والانجليزية، وشلها عن التحرك، حتى لا تسقط منها طائرة واحدة، أو تزهق بفعلها روح واحدة، وأنها ستحافظ على سلامة شعب العراق وتؤذي نظامه فقط. لكننا رأينا ان هذا القصف لم يكن ذكيا، لأن قذف مواقع الرادارات واكبه في نفس الوقت ضحايا مدنيون عراقيون موتى وجرحى، بينما قال البيت الأبيض إن شعب العراق لن تمسه القنابل الذكية بسوء.

وإذا كان المراد ان عمليات القصف ستقتصر على شل قدرات الدفاع العراقي، وتؤدي في النهاية الى سقوط نظام العراق بصفة ذكية، فإن سوابق القصف الامريكي للعراق طيلة حرب الصحراء، وعمليات القصف الامريكي البريطاني طيلة عملية ثعلب الصحراء، التي امتدت أزيد من سنة كاملة، وبصفة يومية متوالية، لم ينتج عنها سقوط نظام العراق. وكل شيء يرشح القنابل الذكية لتحصد الفشل كما حصدته قبلها القنابل الغبية. ولنذكر هنا بأن قصف يوغوسلافيا بالقنابل الذكية أو الغبية لم يُسقِط نظام ميلوسوفيتش، وإنما أبعده عن الحكم الاقتراع الحر النزيه بكيفية ديمقراطية حضارية.

أما ثالث القرارات الخاطئة وليس آخرها في تصريح البيت الأبيض، فهو قوله إنه لا يرتب مشكلة فلسطين في أولوياته، وإنه يفضل إقامة علاقات ودية مع دول المنطقة العربية قبل ان يباشر حل مشكل فلسطين. هذا الموقف يفتقد الحكمة هو الآخر، ما دامت القضية الفلسطينية هي محور الصراع العربي الاسرائيلي، وتتحكم في طبيعة علاقات العرب بالولايات المتحدة الامريكية. ولن تكون للعرب علاقات حميمة مع الولايات المتحدة قبل حلها، كما لن تبقى مصالحها محفوظة في الشرق الأوسط بدون إنهاء الصراع العربي الاسرائيلي.

وإذا كانت الإدارة الجديدة لا تريد ان تعالج المشكلة الفلسطينية على طريقة كلينتون، وأن لا تكون فيها ـ كما فعل هو ـ لا وسيطا ولا حكما ولا سمسارا، فهذه سياسة ذكية ما في ذلك شك، لكنها تفرض على الولايات المتحدة ان تتخلى عن دورها كراع وحيد للسلام. والمنطق يقضي بناء على ذلك ان تترك رعاية السلام لمنظمة الأمم المتحدة التي لها حلها السياسي المتمثل في قرارات مجلس الأمن 248 و 338 و 194. وما على الولايات المتحدة إلا ان تقف وراء حل الأمم المتحدة، وتضع لإسناده كامل ثقلها في الميزان. وهذا هو دورها الطبيعي كقطب أعظم. وهذه هي العملية الذكية المنتظرة منها.