بعض القضايا الاستراتيجية المستقبلية

TT

تتعاظم التطورات العلمية المؤثرة على حياة ومعاش البشر بشكل متسارع غالباً ما ينسينا الاهتمام بالتأثيرات السلبية الحتمية والأخرى المحتملة الناتجة عنها، حتى نجد أنفسنا محاطين بملاحق تلك التطورات وتأثيراتها، دون التكيف الايجابي معها والاستعداد سلفا لها، ينطبق ذلك القول على كل نواحي الحياة، عسكريا وسياسيا وغذائيا وبيئيا وغير ذلك من الشؤون الكثيرة.

على الصعيد السياسي مثلا ما زالت النظم ونظريات وتطبيقات الحكم بطيئة في تطورها، ومأخوذة عن قرون سبقت، ولا تراعي التطور السريع، فما زال هناك مثلا من يحاول السيطرة على المعلومة حتى يواصل السيطرة على البشر، وهذه المحاولة أصبحت تشبه من ينقل الماء بيديه في يوم قائظ عبر الصحراء.

لو ذهبنا أبعد من ذلك سنجد ان حكومات متنازعة، أو قوى متسلطة، ما زالت تريد حل مشاكلها بالقوة المجردة من دون مراعاة لردات الفعل النوعية المحتملة. معاهد التفكير الاميركية هي الأكثر اهتماماً بالرؤى والمخاطر النوعية المستقبلية، ولكن النظام السياسي الاميركي هو الأبطأ في التجاوب الجذري للمواجهة، تتحدث معاهدهم مثلا عن سهولة تركيب السلاح النووي أو السموم الكيميائية أو الجراثيم البيولوجية من قبل افراد أو جماعات، واصابة المدن الاميركية المكتظة بالسكان، رغم ذلك لا توجد لديهم دفاعات مدنية تضمن السلامة ضد ذلك الخطر، وهذا مستحيل أصلاً، كما ان السياسة الاميركية لا تكف عن ممارسة الظلم على هذا الشعب أو ذاك، ولا تتحسس حجم المعاناة النفسية الناتجة عن فعلها. الاحتياطات الفعلية المتخذة هي الحد من امكانيات الدول المعادية لواشنطن عن امتلاك أسلحة ذات تدمير شمولي وأسلحة ناقلة لها، كما هو الحال بين واشنطن وبغداد وبيونغ بيانغ وغيرها من العواصم.

المعاهد الفكرية الاميركية تتحسب ايضا من مخاطر الهجمات الكومبيوترية لشل الكهرباء مثلا، أو تدمير المعلومات، ناهيك من احتمالات التحكم في الاسلحة النووية أو غير ذلك الكثير مما يرد ذكره في التقارير. علينا هنا تأمل ان المعلومات والمواد التي اوصلت العلماء قبل نصف قرن لانتاج الاسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية اصبحت متوفرة الآن، ويمكن لافراد أو جماعات تصنيعها، هذا طبعاً من دون الحديث عن امكانية شرائها جاهزة، أو سرقتها من المخازن الروسية.

يخطر على البال هنا ما تمر به بريطانيا هذه الأيام، فبعد مرض جنون البقر، وحمى الخنازير، يعاني الريف البريطاني من حالة تشبه افلام الفنتازيا العلمية نتيجة لانتشار وباء الحمى القلاعية، ويمنع التمشي في الريف، أحواض تطهير في الطرقات، سيارات شرطة مسلحة تغلق ابواب المزارع وتمنع الفلاحين من المغادرة، آلاف الحيوانات تحرق بنار حامية، وتدفن حتى تقتل الفيروسات ولا تنقلها الرياح لمزارع أخرى. التأثيرات لهذا الوباء لا تحصى رغم انها تصيب الغنم والابقار والماعز والغزلان فقط.

المهم هنا هو ما تحدثت عنه نشرة اخبار البي بي سي بداية من يوم الاثنين اذ نوهت باحتمال ان منظمات حقوق الحيوان قد تكون مسؤولة عن هذا الأمر لانها تريد منع نقل الحيوانات خارج بريطانيا (وهكذا تسببت في قتلها!) وقد يكون شخص تابع لتلك الجماعات قد نقل المرض من خارج بريطانيا (المرض لا يصيب البشر) ونشره بين الغنم، ثم تنقل عبر السيارات والاسواق والبشر الى عدة أماكن.

هذه النظرية من البي بي سي اهميتها في الاشارة لسهولة التنفيذ في هذا العصر المتواصل والمنفتح. يذكرنا ذلك بمرض الايدز الذي يحصد البشر في افريقيا، وما قيل ان فيروسه انتج في مختبرات علمية ونشر عمداً في القارة السوداء لاختباره كسلاح، وللحد من الزيادة السكانية العالمية كون افريقيا ما زالت الاسرع تكاثراً، واصبح الايدز الأكثر قتلاً لسكانها. هكذا لا يستبعد ان نسمع عن استعمال اسلحة أخرى بيولوجية مثلا، أو كيميائية هنا أو هناك لسبب أو لآخر.

الحل الوحيد الناجع لا بد ان يشمل فرض العدالة الصارمة في المعاملات بين الأمم للحد من النزاعات، وتنشيط لأساليب الحوار والتجاوب داخل المجتمعات، وبالتالي ستبقى الاخطار المحتملة محصورة في النواحي الاجرامية.

بعيداً عن قرار الغير ونظريات الحكم، سنجد أيضاً ان التطورات السريعة تمر عبر ابداننا وتضرنا ذاتيا وتهدد مجتمعاتنا استراتيجيا، ونتعامل معها بتجاهل رغم انها تحت سيطرتنا، أو لا نكاد نراها كخطر. السمنة هي احد الملاحق السلبية للتطور السريع الذي يمر علينا، وما زلنا ابعد ما يكون عن مواجهة ذلك الخطر الضار لكل مصاب منا وللمجتمع ايضا. إذا بقينا في الولايات المتحدة، كمثال فقط يمكن سحبه على كل الدول الغنية بنسب مختلفة، سنرى ان ستين في المائة من السكان لديهم أوزان زائدة عن معدلهم الطبيعي، ونصف هؤلاء، أو ثلث الشعب الاميركي تبلغ أوزانه الزائدة حالة مرضية تحتاج الى علاج!. هذه الزيادة المرضية متوفرة لدى ربع البريطانيين، وأكثر من ربع الألمان، وهكذا في هذه الحدود ضمن أوروبا الغربية، وتقل لدى الدول الاقل نمواً وتنعدم تقريبا عند الدول الفقيرة ما عدا حالات متفرقة من اغنياء وسياسيين وعسكر تلك الدول.

نفس النموذج متوفر في الدول العربية، الغنية تزداد فيها السمنة المرضية، والدول متوسطة الحال يدل وزن البعض فيها على ما توصل اليه من راحة معاشية، وكلما فقرت الدول حتى في المحيط الجغرافي الواحد يقل عدد ونسبة السمان فيها (قارن اليمن ببقية دول الخليج، وقارن المناطق المصرية الفقيرة بالغنية، وقارن السياسيين الفلسطينيين بالعمال، والمغاربة بالليبيين...) فما زال الناس يحملون اشارات غنيهم كدهون وكروش وارداف.

في الدول الغنية، كثيرة السمان، تشير الارقام الى زيادة في ميزانية ونفقات الصحة التي تهدر بمعظمها على معالجة الامراض الناتجة عن السمنة. في اميركا تنفق الميزانية عشرين في المائة على الصحة واثنين في المائة على التعليم، علماً بأن التطبيب الخاص لا يدخل في هذه النسبة. في سورية تنفق الدولة اربعة في المائة على الصحة وعشرة في المائة على التعليم. وهذه نعمة نسبياً، وفي المملكة العربية السعودية تنفق الدولة ستة في المائة على الصحة وأربعة عشرة على التعليم، وفي الكويت ثمانية في المائة على الصحة واحدى عشرة على التعليم، هذه الأرقام مأخوذة من متوسط الانفاق في العقد الماضي، مع ملاحظة ان نفقات الصحة تزيد سنويا، ومثلها نفقات مواجهة الامراض الناتجة عن السمنة.

الى جانب مليارات الدولارات الضائعة سنوياً في مجابهة السمنة في الدول الغنية، فإن العالم الغربي المنتج يخسر أضعاف النفقات الصحية من جراء ساعات العمل المهدورة كنتيجة مباشرة للسمنة.

الولايات المتحدة سوف تخسر أكثر في المستقبل القريب لأن السمان بدل ان يجاهدوا ضد انفسهم، يتوجهون لتشكيل حركات حقوقية تطالب بمراعاة ظروفهم عبر تصنيع ما يناسبهم، وايجاد بنية تحتية لهم من مراحيض عامة واسعة وكراسيها عريضة وقوية، سلالم قليلة الارتفاع لمنع تدحرجهم، منع صور الشابات النحاف عن أغلفة المجلات حتى لا يتعقدون نفسياً، أبواب عريضة، كراس عريضة، سعر موحد للفرد مهما أخذ من كراس في الطائرة أو السينما أو المترو ... وهكذا مما سيكلف الكثير الى جانب ما تنفقه الميزانيات العامة الآن على أفراد اصبحوا اقل انتاجاً وأكثر استهلاكا، ويشكلون طبقة جديدة تخترق المجتمع بالطول والعرض.

هذه المعضلة انتاج مباشر للتقدم التقني السريع غير المصحوب بتثوير اجتماعي مناسق له، السيارة توفرت للجميع والغت المشي بينما الاموال توفرت وجلبت المسمنات انواعا واشكالا، دون ان نراعي ابجديات الجسم البشري المتطور عبر ملايين السنوات ضمن تغييرات بسيطة متباعدة زمنيا، فإذا بنا خلال ثلاثين عاما فقط من التغييرات الهائلة نخل توازنه ونغرقه بالارطال. هذا الامر ستكون له تأثيرات استراتيجية سلبية متعددة في المجتمعات المصابة. زيادة في الاستهلاك والنفقات بأنواعها، نقص في الانتاج والاستعاضة بقوى عاملة اجنبية مما سيولد افرازات اجتماعية يمكن التكهن بنتائجها... نقص في ميزانيات التعليم والدفاع وغيرهما نظراً لتراجع الانتاج ولزيادة النفقات الصحية... كل ذلك على الصعيد الاجتماعي العام بدون التطرق للتأثيرات في الأسرة وفي الفرد، ومع ذلك لا نتعامل كدولة أو مؤسسة أو أفراد بالشكل المناسب والفعال مع هذه المعضلة المرادفة للرخاء الاقتصادي والتقدم التقني والتواصل.