اغتيال الحريري: هل من سبيل لكسر قانون الصمت الحديدي؟

TT

قد يستغرق الأمر أسابيع، ان لم يكن سنوات، قبل أن نعرف من قتل رفيق الحريري، ولكن أيا كان من يقف وراء هذا الفعل الجبان فانه أراد تحقيق هدفين.

الأول: حرمان جبهة المعارضة اللبنانية الناشئة من زعيم موثوق فيه، قادر على تجاوز الانقسامات الطائفية باسم الوحدة الوطنية. والثاني: خلق الانطباع من أنه بدون وجود قوات أجنبية على أرض لبنان، فانه من الممكن لهذا البلد أن ينحدر الى الفوضى والحرب الأهلية.

ومن الهام أنه يتعين على اللبنانيين، بدعم من المجتمع الدولي، أن يتوحدوا لحرمان مرتكبي الجريمة من تحقيق ما يأملون في إنجازه. ومع أن تقليد استخدام القتل كمنهج سياسي يتمتع بتاريخ مديد في العالم العربي، ولكن في حالات كثيرة، ينتهي أولئك الذين يفرضون القتل الى نتائج معاكسة لما كانوا يتمنونه. فقتل سعد زغلول عزز من فكرة القومية والإصلاح في مصر، فيما لم يوقف قتل الملك فيصل عملية التحديث في المملكة العربية السعودية، وكذلك بعد مضي ما يزيد على عقدين من السنين على مقتل أنور السادات، تبقى مصر أكثر تمسكا بسلامها مع اسرائيل.

ويمكن لقانون العواقب غير المقصودة ان يفعل فعله في حالة لبنان أيضا، وقد ينتهي أولئك الذين خططوا لاغتيال الحريري ونفذوه، الى جعل لبنان أكثر توحدا خلف أفكاره في الاستقلال والاصلاح والتنمية الاقتصادية.

وعلى الرغم من أن الحريري لا يمكن التعويض عنه بالتأكيد، على صعيد الإطار الشخصي، فان السياسات التي اتبعها، والأهداف التي حددها لشعبه، يمكن وينبغي تبنيها وتعزيزها، من جانب الزعماء اللبنانيين الآخرين الذين يريدون لبلدهم أيضا أن يعيد تأكيد سيادته الوطنية.

وعلى النقيض من بعض المزاعم، فان لبنان لن ينحدر الى حرب اهلية، فكل الجماعات مرهقة من الحرب، وتتذكر جيدا أن إراقة الدماء التي جربتها في أعوام سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كانت ثمرة خطط شريرة من جانب قوى أجنبية، تخوض حروبا بالنيابة في لبنان. واليوم، كما كان الحال دائما، فان أية محاولة لدفع لبنان نحو حرب أهلية، ستكون نتيجة مباشرة لا لآليات داخلية وإنما لآليات خارجية.

غير ان ما هو هام يتمثل في التغيرات العميقة التي جرت ليس فقط في إطار جيواستراتيجي اقليمي، وإنما ايضا في توازن القوى العالمي ككل. فاليوم لا توجد كتلة سوفياتية تسلح وتمول الآخرين، وبالتالي تشجع الدول التابعة على حروب بالنيابة في لبنان. لقد انتهت الحرب الباردة ولم تعد اللعبة الفظة لإثارة طرف ضد آخر سوى ذكرى مأساوية. وربما كان الأكثر أهمية من كل ذلك، أن الولايات المتحدة، التي كانت قد أقامت سياستها في الشرق الأوسط على أساس الهدف المراوغ، نحو ديمومة الحالة الراهنة، ليس بنجاح دائم، تتعهد الآن بتغيير كل الأوضاع القائمة باسم الحرية والديمقراطية. وفي الشرق الأوسط الجديد الذي يتبلور الآن، سيكون هناك على نحو متزايد، مجال أقل لأنظمة غير طبيعية، تعتمد على آيديولوجيات سقيمة ومهجورة.

ظروف وملابسات اغتيال الحريري تعج بالرموز، فقد كان الحريري عائدا لتوه من زيارة قصيرة الى البرلمان، حيث شارك في نقاش حول تعديل قوانين الانتخابات. كما قضى بعض الوقت يشرب القهوة مع مجموعة من الأصدقاء في واحد من المقاهي، التي منحت بيروت نشاطا وحيوية وحركة متجددة. اغتيل الحريري في قلب بيروت، الذي اعيد إعماره ودبت فيه الحيوية والنشاط مجددا، بعد الدمار الذي ألحقته سنوات من الحرب الاهلية، أي قلب بيروت الذي أصبح رمزا للآمال في مستقبل مشرق للبنان.

لذا فإن القتلة اظهروا ازدراءهم للديمقراطية التي بات البرلمان اللبناني رمزا لها، وللرفاهية التي باتت المقاهي رمزا لها، وللتنمية الاقتصادية التي بات قلب بيروت الذي اعيد إعماره رمزا لها.

من المهم معرفة الحقيقة وراء جريمة اغتيال الحريري، وهذه مهمة لا يمكن ان توكل الى السلطات اللبنانية التي باتت مصداقيتها محل تساؤل.

تعرض للاغتيال في لبنان خلال فترة الـ25 عاما الماضية عشرات من الشخصيات اللبنانية البارزة، من بينها رئيسان، هما بشير الجميل ورينيه معوض، والزعيم الدرزي كمال جنبلاط والناشر سليم اللوزي بالاضافة الى عشرات آخرين من الوزراء وأعضاء البرلمان. تعرض هؤلاء للاغتيال عقب محاولتهم التأكيد على موقف لبنان كدولة مستقلة. عكفت 15 لجنة على التحقيق في هذه الاغتيالات منذ منتصف عقد الثمانينات، إلا انها لم تصدر أي تقرير بسبب الخوف من قول الحقيقة. إلا ان الحقيقة المحزنة هي ان اللبنانيين على قناعة بأنهم يعرفون من يقف وراء الاغتيالات، بيد انه ليس هناك من يجرؤ على قول ذلك بصوت عال. إنهم يعيشون تحت ظل القانون الحديدي للصمت، كما يسميه اوميرتا في لغة المافيا، وهي يقضي ببساطة بقتل كل من يعلن عن اسم القاتل.

السبيل الوحيد لإجراء تحقيق يتسم بالمصداقية في اغتيال الحريري هو تعيين فريق دولي يعمل تحت رعاية المحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع بصلاحيات وسلطات قضائية، تسمح لها بمحاكمة حتى كبار المسؤولين المتهمين بارتكاب مثل هذه الجرائم. هذا الإجراء لا يجب بالطبع ان يستبعد او يستبق أي تحقيق تعتزم السلطات اللبنانية إجراءه.

ومن المهم ايضا التذكير بان التخلي عن مشروع التقسيم السياسي للمناطق، الذي خطط له معارضو الحريري بغرض إضعاف قاعدته الانتخابية. وكما اشرت سابقا، فإن الحريري حضر قبل اغتياله اجتماع لجنة برلمانية لإبداء المعارضة لهذه المحاولة التي تهدف الى التأثير على نتائج الانتخابات المقبلة، المقرر إجراؤها في مايو (آيار) المقبل. ومن هنا يجب إرجاء الانتخابات لمدة شهر او شهرين، للسماح للائتلاف الجديد الذي كان يقوده الحريري باختيار زعيم جديد، وحتى يتسنى للشعب اللبناني تجاوز هذه الصدمة.

فالحريري كرس حياته خلال مسيرة نضاله لإعادة الاستقلال والسيادة والكرامة الى شعبه، ليبقى السبيل الاكثر فعالية لتعبير الشعب اللبناني والمجتمع الدولي عن تقديره واحترامه له ولنضاله السياسي، هو بالضغط لجهة التنفيذ العاجل لقرار مجلس الأمن 1559، وهو قرار حصل مسبقا على تأييد بالإجماع من كل القوة الرئيسية والدول العربية.