اغتيال الحريري: حرب جديدة تلوح في الأفق

TT

اذا كان التاريخ سلسلة أحداث مأساوية، فلعلّ 14 فبراير 2005 سيطلق العنان لسلسلة من الأحداث المتلاحقة، نظراً لما أثارته عملية الاغتيال المذهلة التي أودت بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، والتي هزت العاصمة اللبنانية برمتها، من مشاعر طبيعية وردود فعل مفهومة لدى الشعب اللبناني. ونظراً للرد الأميركي السريع، والمتوقع، فلم تمضٍِِ 24 ساعة على وقوع المجزرة حتى سحبت واشنطن سفيرتها في دمشق، مارغريت سكوبي، ودفعت مجلس الأمن لاعتماد بيان رئاسي يطالب الأمين العام للأمم المتحدة بتقديم تقرير، على وجه السرعة، عن «الملابسات والأسباب التي أحاطت بهذا العمل الارهابي» وما سيترتب عليه من «عواقب». ورغم تخفيف لهجة البيان الرئاسي لضمان موافقة أعضاء مجلس الأمن، من خلال حذف أية اشارة واضحة الى القرار 1559، الذي اتخذه المجلس في سبتمبر الماضي بناء على طلب من الولايات المتحدة وفرنسا، والذي طالب «كل القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان»، إلا أن البيان الرئاسي أقام ترابطاً فعلياً بين اغتيال الحريري ودمشق. واذا كان البيان الرئاسي لم يذكر القرار 1559 بالتحديد، لاعتراض بعض الدول الأعضاء في المجلس، لا سيما الصين والجزائر، فإن النص الجديد الذي صادق عليه المجلس يعكس روح القرار ومضمونه. فهو يعيد التأكيد على ضرورة تعاون كل الأطراف المعنية بشكل تام وعاجل مع مجلس الأمن، من أجل التنفيذ الكامل لجميع القرارات ذات الصلة المتعلقة «باستعادة لبنان سلامته الاقليمية وسيادته التامة واستقلاله السياسي». ولعلّ الأمر الأكثر أهمية هو اشارة البيان الى القرار 1556 الذي اتخذه مجلس الأمن في 8 أكتوبر 2004 والذي أدان «بأشد التعابير كل الأعمال الارهابية بغض النظر عن دوافعها»، باعتبارها تشكل واحدة من «أخطر التهديدات للسلام والأمن».

وفيما كان الدخان الكثيف لا يزال يتصاعد من حفرة التفجير في وسط بيروت، كان يجري وضع اطار قانوني، في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، لتعريف عملية الاغتيال السياسية، بوصفها أخطر تهديد للسلام والأمن، مما يعني ادراجها في اطار «الحرب على الارهاب». وبعد مرور مجرد ساعات قليلة على اغتيال الحريري، أكد البيت الأبيض أنه سيتشاور مع أعضاء المجلس، حول «الاجراءات التي يمكن اتخاذها لمعاقبة المسؤولين عن هذا الهجوم الارهابي، واعادة استقلال لبنان وسيادته وديموقراطيته من خلال تحريره من الاحتلال الأجنبي».

وبعد أن تباحث الأمين العام للأمم المتحدة مع وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، حذا حذو واشنطن وأيد تنفيذ القرار 1559. وكان قد اكتفى في السابق بإحاطة المجلس حول مدى تنفيذ هذا القرار، الذي لم يمر الا بصعوبة، والذي كان احتمال تنفيذه بشكل سريع لا يزال موضع الشك. وفي خطوة استثنائية لا سابقة لها، حسب علمي، عيّن أنان تيري رود لارسن مبعوثاً خاصاً له لمتابعة تنفيذ القرار 1559. وأيد أنان، أيضاً، فكرة اجراء تحقيق دولي في عملية اغتيال الحريري، وان كانت الفكرة غير واردة حالياً في مجلس الأمن، لاعتراض دول مثل الصين وروسيا عليها، نظراً لحساباتهما الخاصة.

لا شك أن كل هذه التحركات على ساحة الشطرنج في الشرق الأوسط ليست غريبة بحد ذاتها، الا اذا تذكرنا أن الدولة اللبنانية، التي ترأس الحريري حكومتها مرات عدة في السنوات العشر الماضية، لا تزال دولة ذات سيادة في الأمم المتحدة، حتى لو بقي نفوذ جارتها القوية حقيقة واضحة لا يمكن إنكارها. وهكذا، في مثل هذه الظروف، يصبح مبدأ «السيادة» المقدس الذي تأسس عليه ميثاق الأمم المتحدة مفهوماً متغيراً يمكن تبديله، حسب الحاجة، لتبرير سياسات ونماذج جديدة قد تؤدي، في نهاية المطاف، الى السماح بمجازفات عسكرية لا يمكن ضبطها. وفي عهد «الحرب على الارهاب» أصبحت السرعة التي يتم بها القيام بأي عمل، مسألة خطيرة ومثيرة للقلق، خصوصاً عندما تصبح الافتراضات بمثابة «أدلة» قد تُستخدم لتبرير عمل عسكري أحادي. وعندما سألتُ مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، آن باترسون، عما اذا كانت حكومتها تسيّس المأساة التي طرأت على لبنان بذكر سوريا، كان لردها دلالات واضحة: «يا للعجب! لقد تم تفجير رجل في وسط بيروت، وفي منتصف النهار، وقد أدى الأمر أيضاً الى جرح مائة شخص، فهذا ليس تحركاً سياسياً من جانبنا».

العبء الآن يقع على أنان، الذي طلب منه مجلس الأمن تقديم تقرير حول «الملابسات والأسباب التي أحاطت بهذه العملية الارهابية». ويجعل هذا الترتيب الأمين العام، الذي أصبح موقفه ضعيفاً جداً في الفترة الأخيرة، مسؤولاً عن شبه تحقيق رسمي في اغتيال الحريري. ومهما كانت النتائج التي سيتوصل اليها أنان، ثمة حقيقة لا مفر منها، وهي أن واشنطن التي تتهم سوريا بالسماح للمتمردين العراقيين، الذين لم تتمكن الولايات المتحدة من قمعهم، باستخدام أراضيها قاعدة لهم، لن تفوِّت الفرصة لتحقيق مجموعة من الأهداف السياسية وتضييق الخناق حول الحكومة السورية.

وبإقامة علاقة بين هذا الاغتيال السياسي والقرارين 1556 و1559، تكون واشنطن، وبدعم من فرنسا هذه المرة، بدأت تمهد الطريق لاستخدام الأمم المتحدة، مرة أخرى، لتبرير مواجهة عسكرية محتملة مع سوريا. ألم يظن كيسينجر أيضأ، خلال حرب الفييتنام، أن قصف الفييت كونغ في كامبوديا سيؤدي الى القضاء على مشكلة التمرد التي كانت تواجهها الولايات المتحدة؟ لا شك أن زلزال 14 فبراير اللبناني ستتبعه هزات تتجاوز آثارها لبنان. حقاً، كم يعيد التاريخ نفسه أحياناً.

* مديرة مكتب صحيفة

«الشرق الأوسط» بنيويورك