كفنه المثلث الألوان

TT

لم أرََ مظاهرة تخرج في بيروت في ذاكرتي، إلا وهي تحمل أعلاماً عدة، غالبا ليس فيها علم لبنان. فالمظاهرات غالباً مدبرة ومنظمة. إما تقيمها أجهزة الدولة او تنظّمها الأحزاب. أي إما النفوذ او المال. وعندما خرجت أول وأضخم مظاهرة عفوية في وداع رفيق الحريري لم يرتفع أي علم على الإطلاق سوى علم لبنان. وكان المشهد غريبا وغير مألوف. فعندما تترك للبنانيين الخيار، يرفعون أعلام بلدهم الصغير.

هذا هو الوفاء العفوي للزعيم المسلم الذي لم يضطر الى خلط او ربط لبنان بأي شيء او شعار آخر. جاء وفي قلبه هدف نهائي: ليس للزعيم المسلم عقدة العروبة، ولا يريد له عقدة «اللبنانية». ولا يتقبل ان يتقدم احد عليه، لا في العروبة ولا في اللبنانية. ولم يكن يتقبل حتى على صعيد المزاح كلمة نقد في لبنان.

عندما بلغ رئاسة الحكومة في المرة الأولى، جاء الى زيارة مكاتب «الشرق الأوسط» في لندن، وفيما انزل الدرج، غير عارف انه لا يزال على المدخل، قلت كلمة ممازحة عن لبنان لأحد الزملاء. فما كان من الرئيس الحريري إلا أن صرخ من تحت: «هل تتكلم هكذا عن بلدك» يا فلان؟ وشعرت بالخجل. قبل ذلك كنت اشعر بالإحراج او الخجل في حب لبنان. وكنت أريد له ان يذوب في أي مكان او كيان من اجل العروبة. وفي ذروة البحث عن فلسطين كنت من الذين شعروا انه اذا كانت التضحية بلبنان تفيد القضية الكبرى، فلتكن.

علمني رفيق الحريري ان لبنان وطن جميل وعبقري يستحق الحياة لذاته. وان لبنان السيد والمستقل والمزدهر، فيه نفع للعروبة اكثر من لبنان المستباح باسمها، والمفقَّر بذريعتها والمشتت المقسَّم المستهدف المذّل، بداعي انه لم يبلغ سن الرشد بعد.

لفَّ نفسه بعلم لبنان حياً وشهيداً. في ذكرى توحيد المملكة اتصل بي وطلب مني ان اجري معه مقابلة تلفزيونية حول المناسبة «للمستقبل». وقلت، بكل جدية وصدق، إنني لم اجر مقابلة تلفزيونية مع احد من قبل، ولا اعرف كيف تتم. ومن ناحية أخرى لا اعمل في «المستقبل». ولم ينفع الاعتذار.

وعندما اعددنا للقاء، رأيته يجلس وراء مكتبه، وقلت له إنني اتفقت مع المخرج والزميل مصطفى ناصر ان نجلس قبالة بعضنا البعض، وليس ان تكون وراء مكتبك وأنا تقريباً تحته، كما يفعل احد رؤساء العرب مع ضيوفه، لم يلتفت إليَّ. جلس خلف مكتبه وقال لي: «اذا جلست قبالتك لن يبدو هذا العلم الى جانبي. هل تقبل ان تراني من دونه».

هبطت طائرة رئيس فرنسا، جاك شيراك، في مطار بيروت يوم الأربعاء وفوق سطحها يرفرف علم فرنسا وعلم لبنان. لقد كانت فرنسا تعتبر ان العلاقة التاريخية بينها وبين اللبنانيين لم تعد تقليدياً مع المسيحيين. لقد جعلها رفيق الحريري مع المسلمين. وبسببه خرق رئيس فرنسا كل بروتوكول، وجاء مع زوجته يعزي، أرملة الرجل الذي من اجله كان ينزل درج الاليزيه. كان رفيق الحريري أكبر من حجم العلاقات بين الدول. واكبر من التقاليد والتشريفات. وقد حوله الانفجار الى جسد محترق الى نصفين. وحوَّله موته الى نصب تاريخي في قلب لبنان وفي منارات العرب.