سجن نعمان اليمن

TT

كان الزعيم اليمني محمد أحمد نعمان لا يحب جمال عبد الناصر والسلال والامام أحمد. أما الامام أحمد فكان مادة سخرية في كل المناسبات وكان الرسميون المصريون يحذرونه. ولكن لأنه خفيف الدم ففي أحيان كثيرة كنا نطلب إليه أن يقول ويعيد. وكان لا يتردد.

وكان يمر على المؤسسات الصحفية كجهاز للدعاية المعتادة. وكان صديقي، وكان يسرف في رواية أشعار شاعر اسمه الزبيري. وكنت أظن أن الزبيري شخصية وهمية حتى جاء به وصرنا جميعا أصدقاء.

وكانت له دعابات عجيبة. ففي يوم أيقظني في ساعة مبكرة غاضبا ساخطا شاخطا ناطرا ويقول: كيف تطبل الصحف وتزمر لأن روسيا أطلقت قمرا وبداخله كلب.. مع أن الامام أحمد أطلق ابنه البدر الى لندن ومعه عدة خيول فلم تكتبوا عنه سطرا واحدا؟!

ولم أكن أعرف أن النعمان خطير لدرجة أن عبد الناصر قد غضب على الكاتب الكبير مصطفى أمين لأنه تحدث على لسانه برأيه في النعمان والسلال. فقد عثرت أخيراً على نص الخطاب الذي بعث به مصطفى من السجن الى الرئيس عبد الناصر. الخطاب من أربعين عاماً تماماً وفي 59 صفحة. وكانت تهمة مصطفى أمين التجسس واستحق السجن ظلما وبهتانا تسع سنوات. وفي الخطاب يحاول مصطفى أمين أن يذكر عبد الناصر بأنه لم يفعل ولم يقل ولم يذهب إلا بناء على تعليماته. إلا مرة واحدة تصرف فيها من تلقاء نفسه لأنه لم يفلح في الاتصال به. وانما لأنه يعرف عقلية عبد الناصر .. وهذه الغلطة الواحدة رجحت كفتها مئات ألوف الحسنات التي أسداها إليه!

فلم يكن عبد الناصر يحب أن يعرف الأميركان رأيه بوضوح في الاستاذ محمد أحمد النعمان. يقول مصطفى أمين في حديثه مع روس أوديل المستشار السياسي بالسفارة الأميركية: ان الرئيس عبد الناصر يرى أن النعمان يريد أن يكون شيئا كبيرا على حساب الجمهورية العربية.. وان النعمان مصر على تنحية الرئيس السلال. ولكن الرئيس عبد الناصر مصر على بقاء السلال لأنه يثق فيه. ولا يثق في النعمان.. ثم ان القوات المصرية في اليمن لا تثق في النعمان. فلسانه مع مصر ولكن قلبه مع الملك فيصل.

واختفى الاستاذ النعمان. ولا أعرف أين ذهب. فهو يحيط تحركاته بالغموض. ثم ظهر هاشا باشا. يقول: قال شاعرنا الزبيري عندما خرج من السجن:

خرجنا من السجن شم الأنوف

كما تخرج الأسد من غابها

ونأبى الحياة اذا دنست

بعسف الطغاة وارهابها.

ثم اعتدل ليقول: اما أنا فقلت..

وقال شعراً بديعاً ولكني مع الأسف نسيته. لقد خرج من السجن لتوه.. أما المفاجأة فهي أن الشاعر الزبيري كان في الزنزانة المجاورة. وبعد أيام دعاه الرئيس عبد الناصر. وجلسا وقال وسمع وقالا ولم يسمع أحدهما الآخر وقدم له الرئيس عبد الناصر قطعة شيكولاتة من التي بها ورقة مكتوب عليها البخت.. وقدم النعمان للرئيس قطعة شيكولاتة. وكما يحدث عند لقاء العشاق فتح كل منهما بخته ليضحكا. أما شيكولاتة الرئيس فمكتوب عليها: اتق شر من أحسنت إليه وشيكولاتة النعمان فمكتوب فيها: عدو عاقل خير من صديق جاهل.

ومن أجمل وأبقى ما قاله النعمان في ندوة شعرية في بلودان بسوريا لا علاقة لها باليمن والامام. قال : هناك نوعان من الشعر في اليمن.. شعر في مدح الامام وشعر في رجاء عفوه.

وهو ما يحدث في عصور الطغاة.