للحب ألف حكاية

TT

هنا أسوان حيث تتعانق خيوط التاريخ وتتراكب وتغزل من الماضي والحاضر حكايات تختزنها ذاكرة المصريين. احساسي يقول «بأن الشمس طالعة والنيل بيجري والصبح باسم جميل»، فتحضرني كلمات الراحل صلاح جاهين: «خضرة ومية وشمس عفية وقبة سما زرقا مصفية».

في بهو الفندق لفت المدير انتباهي الى أن أسوان هي ملتقى الحضارتين المصرية والنوبية، وأن التقاء الحضارتين يتمثل في قصة حب حملها لنا التاريخ، وحفظها لأكثر من ثلاثة آلاف عام. هي قصة رمسيس الثاني وفتاة نوبية اسمها نفرتاري، تزوجها وتفانى في حبها، حتى انه نادرا ما يرى تمثالا من تماثيله الضخمة، إلا وتمثال نفرتاري لصيق به وكأنه جزء منه. وعلى غير عادات الفراعنة شيد رمسيس لنفرتاري معبدا يحمل اسمها، وهو شرف لم تحظ به زوجة اي فرعون آخر قبل أو بعد رمسيس.

في الطريق إلى غرب سهيل النوبية يفرد الملاح الأسمر شراعه فينساب النيل حاملا اسرار الكائنات، التي سكنت أرضه وفضاءه وعمقه وسطحه منذ فجر التاريخ. وعلى الضفتين جبل ذهبي يقف حارسا عليه. فهو الهبة التي جعلت سكان الوادي ما كانوا وما اصبحوا.

السكون أمن والقرى تتناثر على مسافات متقاربة. التكوينات الصخرية من الجرانيت الأسود ممتدة على الحافتين، بعضها يحمل نقوشا فرعونية، ربما كانت بقايا من قصور ومعابد لم تكتشف بعد. وهناك جزر صخرية تسكنها الطيور البحرية ترتفع فوق الماء، وكأنها كعكات تتوسطها عشرات الشموع البيضاء. النخيل على الضفتين يتخلله أشجار الدوم وأشجار السنط وعيدان البوص برؤوسها البيضاء العالية. ينحني النهر فألمح تجويفا تظلله أغصان نباتات مائية متشابكة وبداخله قارب صغير غلب ملاحه النوم، فنام بداخله متجاهلا لافتة كتب عليها بخط واضح: «احذر من التماسيح».

الي هنا تأتي الطيور المهاجرة تسكن وتتزاوج ثم ترحل. وهذا مالك الحزين يقف وحيدا على صخرة عالية وتلك دجاجات مائية سوداء تشرئب فتظهر مناقيرها الحمراء وأسراب النورس تشق الفضاء بعزم وكأنها على موعد سابق.

ما زال أهل النوبة مرتبطين بالحضارة القديمة والدليل على ذلك ان المثلث بشكله الهرمي والدائرة التي ترمز إلى قرص الشمس، وكانت رمزا لرع اله الشمس يزينان واجهات البيوت، كما أن الرسوم الملونة لمشاهد البيئة الطبيعية على واجهات البيوت شديدة الشبه بالرسوم و بالالوان التي استخدمها الفراعنة لتزيين جدران المعابد.

وسط البيوت المتواضعة ذات الطابق الواحد، بيت أبيض جميل تحفه حديقة عامرة بالزهور. قالوا هذا بيت عبد الحارس النوبي ومارينا زوجته الالمانية. عشرات الأسئلة تدافعت الى شفتي. من تكون مارينا وكيف تزوجت عبد الحارس ولماذا ومتى؟ سمعت القصة وكأنني كنت على موعد مع لقاء جديد لحضارتين في قصة حب اخرى. ولكن البطل هذه المرة ليس فرعونا يمتلك الارض ومن عليها. والبطلة ليست نوبية، بل اروبية جاءت من الشمال الى الجنوب التماسا للدفء والسكون. ولكن هذه حكاية اخرى، فالي اللقاء في الاسبوع المقبل.