ماذا بعد حصار «دولة الاتجاه المعاكس»؟!

TT

هكذا أشار بوش الى سوريا قبيل مغادرته الى اوربا «المنطقة تسير في اتجاه الحرية والديموقراطية، وسوريا تسير في الاتجاه المعاكس». رحلة الرئيس بوش إلى أوربا لها هدف واحد هو حصار كل من ايران وسوريا. وجبة دسمة ستوضع على مائدة التصالح الأوربي الامريكي المنشود. ذبح قربان سوريا وايران هو رمزية المصالحة الاوربية ـ الامريكية، وقد جاء هذا واضحا في تصريحات البيت الابيض عشية زيارة بوش الى اوربا حين خرجت تصريحات البيت الابيض، مؤكدة «ان رسالة بوش لاوربا هي أننا نشترك معا في قيم حقوق الانسان، وحكم القانون، وحقوق الأقليات واحترام المرأة، قيم يجب ان تصل بصوت واحد لمناطق مضطربة مثل ايران وسوريا» وطالب البيت الأبيض في حملة تصعيد واضحة كلا من ايران وسوريا الى «ايقاف تصدير الإرهاب عن طريق حزب الله»، هكذا قال البيت الأبيض، وعلى الدولتين فتح الأبواب للديموقراطية والحرية، وخص سوريا بتنفيذ قرار الانسحاب من لبنان فورا، فهل جورج بوش قادر على تنفيذ كل هذا؟ وهل ستشاركه اوربا هذه الاهداف؟! وماذا عن دول الجوار؟ هل ستوافق الدول العربية على حصار سوريا؟! هذا ما سأحاول تفسيره في هذا المقال.

1 ـ أوربا وأمريكا والتصالح (المشهد العالمي)

اوربا، وخصوصا، فرنسا، ربما تقبل كلا من ايران وسوريا ككبش فداء للمصالحة الاوربية ـ الامريكية اذا ما قبل الامريكيون بمبدأ «مناطق النفوذ»، اي ان لبنان وسوريا والجزائر هي مناطق نفوذ فرنسي، بينما العراق ومصر والخليج وفلسطين واسرائيل هي مناطق نفوذ امريكي.

بعد ما حدث في لبنان في الاسبوع الماضي ووضوح العلاقة الخاصة بين فرنسا واللبنانيين، وخصوصا علاقة شيراك بلبنان، يبدو مقبولا امريكيا ان يكون لبنان منطقة نفوذ فرنسي، وخصوصا ان الامريكان لم يحالفهم الحظ في لبنان من قبل، وان الذاكرة الامريكية ما زالت تحكمها عملية تفجيرات قوات المارينز في بيروت عام 1982. الامريكان ايضا لا يرون في لبنان ما يرونه في الخليج، وفي العراق، فالعراق فيه البترول، بينما في لبنان اشجار الأرز، وليس الأرز كالبترول. ما يهم الامريكان في لبنان هو انهاء الدور السوري هناك، وكذلك نزع سلاح حزب الله، وتحجيم دوره في التأثير على عملية السلام القادمة بين الاسرائيليين والفلسطينيين، ولا اعتقد ان لفرنسا اي اعتراض على ذلك، وخصوصا ان السوريين أنفسهم أداروا ظهرهم لفرنسا مؤخرا ومدوا يدهم لامريكا، مما أغضب فرنسا وأوجد لديها إحساسا بالغا بالغبن.

2 ـ المؤشرات العربية والمشهد الإقليمي

منذ توقيع اتفاقية الكويز بين مصر واسرائيل وامريكا منذ شهرين وكشف قضية الجاسوس الايراني في القاهرة، بدا واضحا ان مصر «رمت طوبة» ايران من اجل حل فلسطيني ـ اسرائيلي ودور مصري في هذا الحل، كما ان غياب سوريا عن اتفاق الهدنة الأخير في شرم الشيخ ربما هو مؤشر ايضا على ان مصر تستطيع ان «ترمي طوبة» سوريا ايضا.

المؤشر الثاني وهو التنافس الايراني مع كبار مجلس التعاون الخليجي في لبنان، فرغم التقارب الايراني ـ السعودي مؤخرا، إلا ان التنافس الايراني الخليجي، محسوم بأن للخليج دورا في لبنان لا يقل اهمية عن دور ايران وسوريا المتمثل في حزب الله. الحضور السعودي عالي المستوى في مأتم الحريري يدل على ان السعودية لن تتخلى عن دورها في لبنان، وان هذا الدور ايضا هو مدعوم اماراتيا من خلال حضور الشيخ عبد الله بن زايد، وان الخلاف الايراني ـ الاماراتي حول احتلال الجزر ربما يصب في دور للامارات في دعم السنة في لبنان لخلق توازن مع الدور الشيعي المتعاظم في لبنان.

وللتاريخ، فإن الرياض هي التي اخرجت لبنان من حربه الاهلية باتفاق الطائف، وظني انها لن تتخلى عن دور مشهود له بالايجابية في لبنان، دور مدعوم عربيا واسلاميا ايضا. ومن هنا يتضح ان هناك معطيات على الارض تعظم من الاشارات الامريكية لاصدقائها في الشرق الاوسط بإغلاق الشبابيك المفتوحة تجاه كل من ايران وسوريا، وخصوصا في الساحة اللبنانية. إذن فإن العرب المتنفذين، او الدول العربية ذات الثقل قد تسير مع الولايات المتحدة في مسألة حصار سوريا وايران، كما سارت معها في حصار صدام في السابق، وسارت معها في حصار ابو عمار أثناء المقاطعة.

3 ـ الوضع اللبناني الداخلي

واضح ان الوضع في لبنان تعدى مسألة مأتم الرئيس الحريري، ورغم جلال الموقف وبشاعة الفجيعة، الا ان التطورات على الارض تشير إلى ان كرة النار بدأت تتعاظم بشكل لم يتوقعه احد من بيروت الى اقصى المناطق في لبنان. الجميع اتخذوا من هذا الحدث، من حالة الحزن، ذريعة للتعبير عن غضبهم تجاه الوجود السوري في بلادهم، ما زاد هذا الغضب هو إحساس اهالي لبنان بالمهانة، وكذلك بالعجز التام، فإذا كان الرجل القوي المحصن بالمال، وبالعلاقات الخاصة مع الرئيس شيراك، وبالدول النافذة، وبالامن الخاص القوي قد قتل في وضح النهار في بيروت، تُرى ما هو مصير من لا يملكون حتى الكسور من هذه القوة؟! هذا الإحساس بالضعف المطلق هو الذي ادى الى تدافع اللبنانيين الى الشوارع غير مبالين بما تفعله بهم السلطات السورية.. هذه الملايين التي جاءت الى الشوارع ايضا، ولاحِظْ ان جميعها كان منقولا كبث مباشر على شاشتي «المستقبل» والفضائية اللبنانية LBC، عزاء على الهواء، الجميع يريد ان يرى صورته كجزء من هذه الحالة اللبنانية. كل هذا ادى الى احساس بأن كل لبنان في العزاء، أمام الضريح او مع أسرة الحريري في قريطم أو بيروت او مجدليون، أو صيدا. هذا كله رسم صورة واضحة، لو رسمها رسام كاريكاتور لرأينا لبنان كله عن بكرة أبيه موجودا في العزاء، والحكومة اللبنانية المكونة من عشرة افراد معزولة في ركن من الصورة. حالة طلاق بائن بين السلطة والشعب. باستثناء، دفاع السيد حسن نصر الله عن دور سوريا، ودفاع عمر كرامي عن سلطة الاحتلال، كان كل لبنان في اتجاه العزاء واتجاه تحرير لبنان واتجاه السيادة وكانت سلطة لحود في الاتجاه المعاكس.

4 ـ خاتمة وتحليل نهائي

واضح من هذا العرض ان اوربا قد لا تجد غضاضة في التصالح مع امريكا على ان تكون كل من سوريا وايران كبش فداء لهذا التصالح، كما ان النظام الاقليمي، وخصوصا الدورين الكبيرين لكل من مصر والسعودية، يعطي مؤشرا بأنهما ستتجهان إن لم يكن مع امريكا واوربا، ـ على أسوأ الفروض ـ بعيدا عن سوريا وايران حتى تتجنبا شظايا ما هو قادم.

لو نجحت الولايات المتحدة في عزل سوريا دوليا واقليميا فنحن بصدد مبدأ كولن باول العسكري والذي اعلنه عندما كان رئيسا للأركان فيما يخص الجيش العراقي الذي كان موجودا في الكويت، ونحن الآن في ذكرى تحرير الكويت ومرور 14 عاما على الاحتلال والتحرير.

سئل باول عن خطته لتحرير الكويت ـ والجيش العراقي يسيطر عليها ـ فقال «سأعزله (أي الجيش العراقي) اولا، ثم أقتله».. وهذا ما حدث بالفعل، فهل استراتيجية بوش لعزل سوريا هي مقدمة للقتل؟!

هذا ما ستكشفه لنا الأيام القادمة!

الحصفاء من المحللين السياسيين في المنطقة قد يقولون ان سوريا قادرة على مقايضة الوضع في لبنان بتهدئة الاحوال في العراق، لكن الرؤية الامريكية واضحة في هذا الشأن حيث قال مسؤول امريكي «اننا نرفض ان ندخل في مقايضات سوق السجاد Rug market».

ما سنراه في الايام المقبلة هو ارهاصات هذا الحصار، ستعلو اصوات اللوبي الايراني في العالم العربي باسم الهجوم الامريكي والاوربي هذه المرة على الإسلام، لكن الذين يديرون دفة السياسة في المنطقة سيكتمون هذه الأفواه بسرعة. تحليلي للشأن السوري الآن أقرب الى تحليلي للشأن العراقي قبل سقوط نظام صدام، فيه مرارة كثيرة ولا يقبله البعض، لكنه مبني على معلومات، ويعكس ما سيحدث، فلا يصح ان نضحك على أهلنا ونبيع لهم «هواء» كما تفعل الفضائيات ثم يفاجأون بأن الفأس قد وقع في الرأس. أمام سوريا فرصة للتراجع، وأمام العرب فرصة لتصحيح أخطائهم واستدراك درس عناد صدام حسين، فهل من متعظ؟! أم أننا سنستمع للسكرة الكلامية على الفضائيات والعنتريات الصحفية والتصريحات النارية؟! الحصار مقدمة لضربة، هذه هي الحقيقة الاستراتيجية، وأي تكتيكات مؤقتة ستبهج في لحظتها لكن الثمن سيكون فادحاً.