من يتآمر على من في لبنان..!؟

TT

« إذا كان من الخطأ تصوير التاريخ وكأنه مؤامرة، فالأشد تورطاً في الخطأ تصويره وكأنه مصادفة». تدبير عملية اغتيال الحريري بهذا الاختيار والتوقيت الشيطاني صدم حتى أكثر المتشائمين في رؤية الساحة اللبنانية، وأربك تصورات المحللين والمراقبين عندما تمت هذه العملية بطريقة تمنع أي احتمال لفشلها. فالتوقعات المفهومة مع تطورات الأشهر الماضية، هي ظهور تهديدات أو محاولات اغتيال توصل الرسالة السياسية مع الاحتفاظ ببعض خطوط الاتصال.

ما حدث هو أن العملية الإرهابية أزاحت كامل اللعبة من المشهد وليس قوانينها في قراءتنا للواقع اللبناني. الجميع بدأ يشاهد الواقع بصوره مكشوفا وعاريا تماماً، بعد مراحل طويلة من التستر عليه، فأخذت القراءات والتحليلات العربية للوضع اللبناني تظهر بلغه أكثر وضوحاً وشفافية، بعد عهد طويل من الغموض والمنطق العربي المتحايل في رؤية أزماته السياسية.

هل كان المغدور به ضحية اعتداله، وعقلانيته في المولاة والمعارضة التي مارسها في حدها الأدنى وتحت سقف الطائف. يمكن القول إن الفقيد من أبرز الشخصيات اللبنانية التي حاولت الدفع باتجاه ثورة مدنية ليبرالية، وهو بطريقه ليكون مدرسة سياسية عربية في أكثر الأماكن تأزما وتعقيدا وجواراً لإسرائيل في عالمنا العربي، وما حدث هو محاولة لإجهاض ممثل مدرسة الاعتدال السياسي التي بدأت تظهر نتائجها الإيجابية على الواقع اللبناني بعد عقد ونصف العقد. فالعالم الآن بدأ يثق بالوعي المدني للمجتمع اللبناني، لأن شكل المعارضة التي تلقى دعما شعبيا متزايدا بعيدا عن الطائفية والدموية لم تسجل أي مظاهر تدل على بوادر حرب أهلية، وبدأ معها المجتمع في أفضل حالاته للممارسة الديمقراطية.

مع مثل هذه الكارثة، الواقع يتطلب مراجعة لاتجاه سائد وعقلية عربية نمطية في رؤية أزماتنا السياسية مع التغيرات العالمية. اتجاه لا يزال له أنصاره في حالة تجمد عند طرائق تفكير ومفاهيم لم تفلح سخونة هذا العالم في إذابة قوالبه المتصلبة في الرؤية السياسية، وإزاحة مصطلحات قدست ومفردات تعفنت لكثرة استهلاكها. فالحديث التمجيدي كلاميا عن المقاومة ومواجهة تهديدات الأعداء فقد بريقه منذ زمن، واستبدال كلمات في الخطاب السياسي مثل الامبريالية بالمحافظين الجدد الأمريكيين لتفسير كل شيء ليست إلا تحسينات شكلية توهم بالتطور السياسي.

سيفقد سؤال من الفاعل أو المتآمر قيمته مع الزمن وتطورات الأحداث، ومع أهمية اكتشاف الفاعل في عدم أتساع الأزمة، لكن مثل هذا المسار محاط بعوائق حقيقية أكبر من الحدث نفسه، وانتظار النتيجة المقنعة للجميع داخليا ودوليا نوع من الأوهام، وما يخشى هو أن يتحول السؤال في البحث عن مجهول إلى لعبة كلامية يخدع بها من لا يريد مواجهة استحقاقات الواقع الذي فرض نفسه منذ سنوات، وتحديدا بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وليس من القرار 1559 كما يظن الكثيرون، ويتردد على ألسنة المعلقين، حيث توقع حينها المجتمع الدولي تغيرا حقيقيا في شكل العلاقات السورية اللبنانية. الدبلوماسية الدولية البطيئة في السابق سرّعها قرار التمديد، الذي يعتبر البداية الحقيقية لانقلاب الرأي العام الدولي والداخلي في لبنان، وإذا كان المتابع لا يستطيع إبعاد أي احتمال في حقيقة الجهة المتورطة بهذه الجريمة، ومهما كانت الانطباعات السائدة والتي تحولت إلى شبه إجماع مبطن على تحميل الطرف اللبناني والسوري مسؤولية ما حدث، دون اتهامهما مباشرة بالتورط في الفعل. إن فرضية التآمر من قبل أطراف متعددة ومنها إسرائيل أو أمريكا كفرضية أولية وسهلة عند العقلية العربية التقليدية في هذه المرحلة، يمكن فهمها، لأنه من الخطأ استبعاد أي احتمال بما فيه هذه التهم التقليدية الشعبية، التي يستحيل فيها الإنكار والإثبات، لأنها انطباعات وجدانية ترافق كل كارثة تصيبنا، لكن المؤامرات تحتاج إلى مناخ على الأرض لتبدو العملية ذات قيمة ونتيجة مثمرة للعدو، ولا يستطيع أحد اتهام أمريكا وإسرائيل في قرار التمديد ودوره في احتقان الشارع اللبناني، وتنامي روح المعارضة. فالمؤامرات الدولية تحتاج إلى مؤامرات داخلية نفعلها بأنفسنا وسوء تقديرنا. فالقصة بدأت من هنا واغتيال الحريري جزء من هذا المسلسل، وما زالت الأجواء مهيأة لمزيد من المؤامرات التي يغذيها سوء التفاعل السياسي مع المتغيرات والتطورات العالمية.

لم يكن لسوريا التي يجب أن لا تلغي الذاكرة التاريخية دورها الإيجابي في السابق ولا الحكومة اللبنانية أي مصلحة من هذا الفعل الإرهابي، وهذا مما زاد من غموض العملية، لهذا لجأ بعض المحللين إلى فرضية وجود تمرد وتصرف فصيل داخل أجهزة الاستخبارات، لكن أخلاقيا وعقليا يجب عدم التهور في تقديم مثل هذه التهم المبكرة للطرف السوري واللبناني، قبل ظهور بعض تفاصيل العملية ونتائجها.

ما يملكه الطرفان السوري واللبناني الآن هو إيقاف مسلسل التآمر حسب رؤيتهما، وقطع الطريق على استمرار التدهور. فقد وحّد هذا الحدث الرؤية الأوربية والأمريكية. فالإغراق في حكي منمق وصراخ يستند إلى جدل عقلي بعيد عن توازنات القوى الدولية التي لها التأثير الأقوى على تحديد مسار التطورات وفق مصالح القوة الأمريكية. من المهم قراءة الواقع بمعزل عن الثقافة القديمة في المواجهة السياسية. فتخفيف الاختناق قبل أشهر أسهل منه اليوم، وسيتصاعد ما لم يوقف هذا التدهور مبادرات جادة، توحي بالتحول الجذري. فالتدخلات الدولية التي كانت مستبعدة في الماضي بدأت تأخذ مشروعيتها شيئا فشيئا، حتى من شخصيات وجهات لها تاريخ في معارضة التدخل الأجنبي، حتى صرحت شخصيات وأعلن عن استعدادها للقبول بحماية دولية أو انتداب أجنبي، مما يزيد من تعقيد الأزمة، ويدخلها في طور جديد يصعب التكهن بمآلاته، وما زال التصعيد قائما والاتهامات بالتآمر متبادلة.

إن الرهان على رأي عام عربي أو براءة قد تصدر متأخرة ليس له قيمة في تغيير مسار التاريخ، فإنكار وجود أسلحة الدمار الشامل عند النظام العراقي قبل الغزو الأمريكي، وجميع الخطب الرنانة والمقالات والاحتجاجات العالمية والمظاهرات في مختلف دول العالم، لم تنجح في إيقاف قرار الإطاحة بالنظام، ومع أنه ثبت للعالم مؤخرا عدم صحة هذه التهمة، إلا أن هذا لم يغير من حقيقة الواقع الذي انتهى إليه نظام صدام، لأن أسلحة الدمار الشامل ربما وجدت في عقل النظام السابق الذي أدار الأزمة السياسية برهانات خاسرة..!

* رئيس تحرير مجلة «المجلة»