رفيق الحريري ... دموع وإدانة

TT

الدموع السخينة التي ذرفتها الجموع على رفيق الحريري، وخيبة الأمل المرة التي خيمت على مئات الألوف في شوارع بيروت ، محبوبته وعاصمة لبنانه ومعقل زعامته، أقوى بكثير من محاولات كسب وقت رخيصة... تثير مماحكات هنا أو تطلق تمويهات هناك بقصد تغييب حقائق بسيطة.

الغضب الشعبي المتفجر وضع ببلاغة ـ أحياناً جارحة ـ النقاط على الحروف بعد فترة متطاولة مما يصح وصفه بـ«كبت الضرورة»، بينما خرس الى حين فصحاء «الشرعية» المعدومة و«السيادة» المغيّبة.

قد تلام المعارضة على التعجل بتوجيه أصابع الاتهام.

ربما جانبتها الموضوعية وبرودة الأعصاب.

ربما كان عليها انتظار نتيجة التحقيق (الى متى؟... هذه مسألة أخرى). لكن كيف يجوز فصل جريمة اغتيال رجل بوزن رفيق الحريري الانساني ، وقيمته الوطنية والقومية والدولية ، عن أجواء التهجم والتحريض والتخوين من «كومبارس» رخيص... يحترف وصلات الشتم بكبسة زر وأوامر يتلقاها على التلفون.

عندما كتبت قبل نحو أسبوعين مقالة بعنوان «لماذا وليد جنبلاط؟» كنت متخوفاً من تجاوز نبرة التخوين والتحريض الاعلامي الموحى بهما على شخصه «الخط الأحمر». وكان جلياً أن أقل ما يمكن أن يولّده هذا الجو هو اهدار دم الرجل بعدما أدين بلا محكمة بالخيانة العظمى.

وكنت متخوفاً من «سيناريو» ما حصل لرفيق الحريري عندما ألمحتُ في الأسبوع الماضي الى تسابق حاصل داخل معسكر «الموالين» للسلطة اللبنانية ـ ومن خلفها دمشق ـ بين تيارين: أحدهما يسعى لبلورة «ثقل» إسلامي في وجه المعارضة ويعبر عنه بتضامن القيادات الشيعية مع دمشق واتهام رئيس الحكومة (السنّي) عمر كرامي خصومه المعارضين بالعمالة للخارج من داخل المساجد، «أما الخط الثاني فستسلّط الأضواء عليه أكثر فأكثر في مناطق الثقل السني في كل من مدينتي بيروت وطرابلس مع مناطق أخرى بشمال لبنان».

هذا الشق «السنّي» من المعادلة كان في ذهني مع سير حملة التحريض قدماً. ولقد زكاها منذ بعض الوقت تعامل السلطة مع تقسيم مدينة بيروت انتخابياً، بعد طرح خيار القضاء دائرة انتخابية (مع تعديلات كما في عام 1960).

أكثر من هذا كان ثمة ادراك بأن وليد جنبلاط برغم شجاعته وصراحته وديناميكيته قد لا يوفر التغطية الاسلامية الكافية للمعارضة لكي تخرج من «حدود المتصرفية» (حسب تعبير الاستاذ الصديق طلال سلمان) وتتحول الى معارضة وطنية. وأن هذا البعد الاضافي الحيوي لا يوفره غير رفيق الحريري.

كانت زعامة السنّة وكان موقعهم من العوامل المهمة والحساسة في ما يطبخ طائفياً للانتخابات ، ولا سيما أن عددأ من الوزراء ـ منهم وزراء مسيحيون من صف «الموالاة» ـ قالوا صراحة إن رفيق الحريري ووليد جنبلاط يتمتعان بحجمين سياسيين مصطنعين أكبر من حجميهما الحقيقيين... وبالتالي يجب اعادة كل منهما الى «حجمه الطبيعي». بكلام آخر يجب اسقاط أكبر عدد ممكن من نواب كل منهما واهداء مقاعدهم لمزيد من «الكومبارس». من هنا صار التخوين «سلاحاً ضرورياً»، و«التحريض» بالاشاعات والحملات الاعلامية اسلوباً مقبولاً ومطلوباً. وفي مثل هذا الوضع، ووفق نيات من هذا النوع يصبح خوض أي منا في تعقيدات الأدلة الجنائية مضيعة للوقت.

لقد أهدر الدم ...وكفى.

وحتى اذا كان المنفذ طرفا آخر(معاديا للعروبة والوطنية... طبعاً!!!) فان قرائن الاتهام قوية جداً. والحكم الشعبي على أساس الممارسات السابقة واثق وقاطع. بل إن مجرد التساوي في مسوغات الاتهام بين الشقيق والعدو... يشكل ادانة كبرى للشقيق الذي خسر القلوب بعدما استخف طويلاً بالعقول.