معنى أن يغتالوا المستقبل.. !

TT

كلّ وجوه الموت بشعة، وأكثرها قبحا أشكال القتل والاغتيال، حيث يتحوّل الموت من مصيبة يحكمها القدر وقانون الطبيعة، إلى تراجيديا تحمل الإنسان إلى أعلى مستويات العبث بالجسد وبالروح ، فنشاهد بشكل مادي خياراتنا العدمية ، والعجز على التواصل والحوار، والتعايش بعيدا عن القتل واغتيال الاختلاف. شيء من الحزن المتكرر يفيض في الداخل مع تكرار مشاهد السطو على الحياة ، فلا نقوى إلا على التساؤل: لماذا ؟ دون أن نفقد حالة الرفض الأولى والأبدية لمشهد الموت. ويصير الرفض المتوارث مظاهرة رفض إذا ما جاء الموت متنكرا في ثوب رث حقير مرقع هو الاغتيال !

وفي الوقت الذي تتراكم فيه ابتكارات الأمم القوية والكبرى في مجالات العلم والتكنولوجيا وتنشر فاعليتها إلى العالم ، ننشغل فيه نحن بابتكار شتى أشكال الموت وأكثرها فجيعة وقبحا وبشاعة . منطق تحكمه ثقافة القتل والإقصاء وقطف الرؤوس التي أينعت ، وقطع الأيادي التي تجيد الفعل، وفعلها في تصالح وانسجام مع البناء الذي يحقق المستقبل الأفضل.

فإذا كان الموت مصيبة في حد ذاته ، فإن الاغتيال بالطريقة التي حدثت لرئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري كارثة بكل المقاييس، تعيد إلى الأذهان بشاعة الموت وحجم التهديد الذي يتعرض له رموز البناء، وكل الفاعلين في مجالات الفعل السياسي والاقتصادي والديني.

وفي حالة الحريري امتزجت أشياء كثيرة . لذلك كانت الصدمة كبيرة والانفعالات حادة وعالية النبرة. كلّ صاغ التراجيديا التي وقعت في قلب بيروت من زاوية معينة ، ولا عجب من ذلك، فالمغدور به كان رجل الآفاق المتعددة والصور الكثيرة والأفعال المختلفة. ولعل الصورة الأولى للحريري هو أنه كان مثالا للنجاح في وقت الخسارات والفشل المتكرر ونموذجا للإرادة والتفوق. وعادة الشخصيات العصامية التي تبني نفسها بنفسها، تخلق نحوها حالة من الإعجاب والانبهار، خصوصا عندما ينتقم الشخص لطفولته المتواضعة بفعل الخير وإعانة المحتاجين. فهو ليس هامة زعاميّته تاريخية ، بقدر ما كان شخصيّة عامّة ناجحة نشيطة. وقد يثير النجاح في نفوس كثيرة الغيرة وأحيانا الحسد ، ويجعل للناجح أكثر مما يجب أعداء، ولكن مع ذلك فإن مشهد قتل النجاح يبقى أقصى مستويات السادية.

الوجه الآخر للتراجيديا هو فقدان ثروة لا تقدّر بثمن سياسيا ودبلوماسيا. ذلك أنّ الحريري أحد الحلول المقترحة لأزمة لبنان الذي افتقده في لحظة إقليمية حرجة وخطيرة ، تشهد اشتباكا سياسيا مجهول النهاية. وكان بإمكان لبنان الاستفادة من شبكات علاقاته الواسعة والمؤثرة ، سواء لحل المشاكل الاقتصادية أو لحل الأزمات السياسية الحاصلة، خاصة أن عملية الاغتيال تمّت في سياق نفق سياسي يتعلق بالقرار 1559 القاضي بخروج سوريا من لبنان.

ويصبح اغتيال الحريري ضربة في صميم قلب لبنان الكثير الدقات ، إذا ما تمّ تقدير حجم خسارته سياسيا، وذلك من خلال موقفه القائم على الاعتدال في مشهد سياسي تسوده معارضة راديكالية عالية الصوت والسقف والسند. علما بأنه قد تمّ حوله إجماع من كل الأطراف المختلفة والمناقضة. إن هذه الأسباب كلها تضاف إليها مشاهد الموت التي نشاهدها دون هوادة منذ تاريخ أحداث 11 سبتمبر 2001 تجعلنا ندرك أن اكتواء الحريري بالاغتيال وبالموت غدرا، يعني أن أرجل الاخطبوط يمكن أن تبلغ الكثيرين، ذلك انّه لا الاعتدال ولا التفاني من أجل الوطن يشكلان حصانة لرموزنا. ولأن وقوع التراجيديا يفتح ذاكرة القتل بأسرها، فإن حادث الاغتيال الذي زاد الطين بلّة، أعاد إلينا مشاهد الموت والاغتيالات التي استهلكناها مكرهين في السنوات الأخيرة ، سواء اغتيال الشيخ أحمد ياسين أو الرنتيسي والحكيم والعلماء العراقيين (هيئة علماء المسلمين في العراق أحصت اغتيال ما يزيد عن 20 إماما) وفي الشأن اللبناني، الجميع تذكر محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة واغتيال نجل وزير العدل اللبناني السابق القاضي جوزف شاوول في 13 فبراير من العام الماضي.

ورغم أن الاغتيال السياسي يمثل في السياق اللبناني عادة لها جذور وتاريخ ، فإن اللبنانين وهو ما عبّرت عنه تغطية وسائل الإعلام، قد اهتزوا للحادث بشكل كأنه يحدث لأول مرّة. ولعل رد فعل مماثل يدل على أن فترة الاستقرار التي عانها لبنان أوحت بأن ذهنية المليشيات والتقاتل والعنف المتبادل المستحكم قد انتهى أمرها بزوال الحرب الأهلية. ومن المفارقات أن الرجل الذي أشرف على اتفاق المصالحة الوطنية ، وأعلن تفاؤله بمستقبل لا مكان فيه للقتل، والذي أقدم على مغامرة الإعمار بحماسة واندفاع انتقده عليه كثيرون، هو نفسه الذي يموت مغتالا صحبة تسعة من مرافقيه، وكأنه عدو للبنان ومتآمر عليه وجب التخلص منه بتفجيره !

ولعل قمّة التراجيديا أن قاتله قد يكون من بين الذين شيعوه أمس إلى مثواه الأخير، ومن بين الذين سيفتعلون البكاء ويتوشحون بالسواد كدليل على الحزن.

إن قتل أحد رموز المستقبل اللبناني ، والرجل الذي كل الدلائل تشير إلى علاقته الخاصة بالمستقبل، (ليس اعتباطيا تبنيه تلفزيون «المستقبل» وإصداره جريدة «المستقبل»)، حجة إضافية على أن محنة هذه الأمّة ثقافيّة في المقام الأولّ ، ورغم أنّ ديننا قد دعا إلى التوفيق بين حياة الدنيا وحياة الآخرة ، فإن المنتحرين مصرون على مزيد جرنا الى حمامات الدم وفي مناظر الأشلاء المتناثرة. ومن حمام إلى آخر يثبتون لنا بأنهم أعداؤنا الأوائل والأكثر خطورة ، ذلك أن استهداف الكفاءات والرموز المؤثرة والفاعلة ، يهدف إلى خلق حالة شلل ورعب وعقم ، بمعنى ممارسة الردع من خلال الاغتيالات ليسكن الجميع في الجحر، ويترك الوطن للذبول وللاحتضار. ولقد بدأت تأثيرات جريمة الاغتيال تظهر بعد ساعات قليلة من وقوعها. ومن ذلك دخول المعارضة اللبنانية في حالة من العناد شديدة ومحاولتها الانفعاليّة استثمار حادثة الاغتيال لصالحها، إلى درجة بلغ فيها تشنج وليد جنبلاط الترحيب بانتداب أجنبي أو بتدخّل قوى أجنبيّة ، والحال أنّه من رافضي التدخل السوري. ومن التأثيرات الأخرى أيضا تضييق الخناق وتشديد الضغط على دولة عربية هي سوريا، بل أن ما كان يوصف بالتقارب الأمريكي الأوروبي حول لبنان، قد تحول باغتيال الحريري إلى تزاوج أمريكي أوروبي. وهكذا، ومرّة أخرى، نقدّم أوطاننا ومستقبلنا وقرارنا وشؤوننا الداخلية لقمة سائغة لقوى أجنبيّة ، من حقها استثمار ما نوفره لها من رأس مال من الانقسامات ، ومن قلة الرشد ومن استعداد لاغتيال كفاءاتنا ورموزنا انتقاما من وطنيتها ونجاحها، تماما كما فعل واحد من أعداء لبنان مع الحريري.

[email protected]