قوات حفظ السلام وجرائم الجنس.. علاج متأخر ومحدود

TT

ما من أحد في العالم لم يسمع بعد ان الأمم المتحدة «مطوقة»، وأمينها العام «محاصر»، ولكن القلة تدرك أن الأمم المتحدة، ومعها أمينها العام، وضعت نفسها في هذا الموقع النفسي، لأنها أعارت أهمية أكبر من اللازم للأصوات القليلة الصادرة عن الكونغرس والاعلام الأميركي.

وفي سعيه لتهدئة المشككين فيه وفي المنظمة الدولية، كتب كوفي أنان في 22 من الشهر الحالي مقالاً في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية المحافظة، والتي قادت الحملة ضد الأمم المتحدة مستخدمة «فضيحة النفط مقابل الغذاء» ذخيرة لها، فخصص جزءا منه للتأكيد على أن الولايات المتحدة بحاجة الى الأمم المتحدة، والجزء الآخر للتشديد على أن المنظمة الدولية ليست كاملة، ولكنه يفعل كل ما في وسعه لتحسينها.

وثمة فقرة في المقال شدّت انتباهي لاعتراف الأمين العام، بأن هناك مسألة «تثير الصدمة» أكثر من أية مسألة أخرى أساءت بسمعة المنظمة الدولية في الآونة الأخيرة، وهي «حالات الاستغلال الجنسي، واساءة المعاملة الجنسية واسعة النطاق التي يتعرض لها القاصرون على أيدي قوات حفظ السلام وبعض المسؤولين التابعين للأمم المتحدة في الكونغو ودول افريقية أخرى». ويؤكد أنان في المقال على مدى «بطء» الأمانة العامة والدول الأعضاء في الأمم المتحدة «في ادراك حجم هذه المشكلة، لكننا الآن ندرك ذلك، وأنا مصمم على القضاء عليها».

وكنت شاهدت، قبل أيام قليلة، تقريراً ينتقد الأمم المتحدة بحدة عرضته محطة «ايه.بي.سي» الأميركية ووثّق بالصور سلوك بعض موظفي الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، من العسكريين والمدنيين. وهي صور تظهر بشكل لا لبس فيه تورط بعض المسؤولين في المنظمة الدولية في ما وصفه أنان بـ«الاستغلال الجنسي»، اذ تم التقاط صور لهم برفقة عاهرات في مراكب تابعة للأمم المتحدة، وذلك في بلاد لا تزال تعيش في ظل حرب مدمرة، وما تركته من آثار وفقر بالغ.

لا شك أن «الاستغلال الجنسي» هو أمر مثير للصدمة. ولكن، كيف يجزم الأمين العام الذي يقود المنظمة الدولية منذ ثمانية أعوام، والذي كان مسؤولاً عن عمليات حفظ السلام قبل ذلك، بأن «الأمانة العامة كانت بطيئة في ادراك حجم هذه المشكلة».

لعلّ الأمين العام يدرك أكثر من أي شخص آخر، أن الدعارة ازدهرت بصورة علنية في كمبوديا بين عامي 1992 و1993، وذلك عندما تم نشر أول عملية حفظ سلام واسعة النطاق. وربما يدرك الأمين العام أيضاً أن الدعارة، وما أدت اليه من جرائم جنسية مرتكبة بحق الأطفال كانت حقيقة لا تُخفى في عمليات حفظ السلام في جمهورية موزامبيق من 1993 حتى 1995، اذ أجرت الأمم المتحدة نفسها تحقيقات فيها. وماذا عن رواندا؟ والصومال؟ و يوغسلافيا السابقة؟ وسيراليون؟ ألم تكن هناك حالات «استغلال جنسي» و«سوء معاملة جنسية» معروفة بين بعض كبار المسؤولين في الأمم المتحدة في كل واحدة من عمليات حفظ السلام، التي قامت بها المنظمة؟ وألم تكن هناك، أيضاً، حالات تم التكتم عليها؟ وألم تحقق الأمم المتحدة في معظم هذه الحالات، بعدما كشفت عنها وسائل الاعلام؟ فالمشكلة، من دون شك، ليست جديدة على الاطلاق.

لا جدال في أن قيام أفراد من قوات حفظ السلام، عسكريين كانوا أو مدنيين، بإيذاء الأشخاص الذين أرسلوا من أجل حمايتهم والدفاع عنهم، «مثيرة للصدمة»، خصوصاً أن هؤلاء الأشخاص هم أكثر الناس ضعفاً وفقراً وعرضة للخطر. ولكن مع ذلك، هل يمكن لأحد أن يتوقع أن تكون هذه البعثات خالية تماماً من أية اساءة أوجريمة؟ بيد أن الأمر المقلق هو أن الأمم المتحدة لا تزال تسمي الجرائم الجنسية الفاضحة بـ«الاستغلال الجنسي» و«سوء المعاملة». وحتى الآن، سمحت المنظمة لأفراد قوات حفظ السلام، بإقامة علاقات جنسية مع الفتيات المحليات اللواتي تتاجرن بشرفهن. وفي الواقع، ثمة سياسة متبعة في الأمم المتحدة تقوم على تزويد كل فرد يعمل في قوات حفظ السلام بعازل، يومياً، للحد من انتشار مرض الايدز. وهنا تكمن جذور المشكلة اذ أن السياسة المتبعة تجعل الجنس مع الفتيات اللواتي تتاجرن بشرفهن «قانونياً». فالمسألة ليست أخلاقية، انما هي مسألة تتعلق بالمناخ الذي يعمل فيه حفظة السلام، وهو مناخ يسوده الفقر الشديد والأمراض واليأس. فتصبح الدعارة وسيلة للبقاء، وتفتح باب «الاستغلال الجنسي». وتقود الرغبة في الحصول على لوح من الشوكولا، أو كأس من الحليب بعض الفتيات اللواتي لا تتعدى أعمارهن الـ 12 عاماً أحياناً الى الموافقة على الخضوع لما يطلبه منهن أفراد قوات حفظ السلام من خدمات جنسية. وهذا أمر لا يساوي «اساءة معاملة» فحسب، بل جريمة اغتصاب لا يمكن السكوت عليها.

ومع صمت الأمم المتحدة على ما يحدث، يبقى الطريق مفتوحاً أمام كل أنواع الجرائم. فالأمم المتحدة تعلم بهذه المشكلة منذ فترة طويلة، ولكنها لم تحرك ساكناً، حرصاً منها على عدم اغضاب الدول المانحة للقوات، والتي يواجه مواطنوها من الجنود والمدنيين تهماً بارتكاب مثل هذه الجرائم، لأنها بحاجة ماسة الى ما تقدمه لها هذه الدول من قوات دولية.

لقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً لتدرك الأمم المتحدة أن جذور المشكلة الحقيقية تكمن في سياسة تشجع ضمنياً ـ ان لم يكن بوضوح ـ الاتصالات الجنسية مع مجتمعات ضعيفة بحاجة الى حماية دولية. ولكن الآن، وبجرة قلم، قرر أنان في 9 فبراير (شباط) الماضي، تطبيق سياسية «عدم اختلاط» في جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تمنع أي نشاط جنسي مع السكان المحليين. واذا كانت السياسات والقوانين لن توقف تماماً هذه الجرائم، فإنها ستساهم في ملاحقة مرتكبيها ومقاضاتهم كما أنها ستساعد على ردعها. ويُعتبر قرار الأمين العام قراراً صائباً، وان جاء متأخراً. غير أن ما يثير القلق هو أن هذه السياسة الجديدة سيقتصر تطبيقها على جمهورية الكونغو الديمقراطية، بينما المطلوب الآن هو تعميم هذه السياسة الصارمة على 15 عملية حفظ سلام أخرى، حتى لا تنتظر المنظمة الدولية سنوات عديدة قبل التحرك لوضع حد لتفشي ظاهرة لا تسيء الى سمعتها فقط، بل تذهب ضحيتها شعوب هي بأمس الحاجة الى حماية الامم المتحدة.

* مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في الأمم المتحدة