مدخل وجداني

TT

أمضيت الأيام القليلة الماضية في الامارات والرياض. وتستضيف صحف الامارات كل يوم كتابا من مصر والمغرب وسائر العالم العربي. ومنذ استشهاد رفيق الحريري وجميع كتاب العرب يشاركون بأفكارهم. وفي حين تعاطى الكتاب اللبنانيون مع الغياب على انه حدث سياسي، لا يزال الكتاب العرب يكتبون عن الحريري على انه ظاهرة عربية في المال والسياسة وعمل الخير. وفي معظم ما قرأت، اتفاق على ان الظاهرة لم تولد من آيديولوجيا ولا من قدرة على الخطابة ولا من دهاء سياسي، وانما من العمل والكد والاجتهاد الذي لا نهاية له. لم يتدرج في حزب ولم يستخدم منبرا ولم يتوسل الجماهير ولا ضحك عليها أو ضحكت عليه. نزل الى الناس ببساطة وخاطبها ببساطة. وخصوصا بوضوح.

لقي رفيق الحريري من المعارضة ما لم يلقه سواه. استهدفه المعارضون في مقامه من اجل ماله. وذهب صغارهم الى حد تخوينه. ومن اجل المال هاجمته بعض الصحف اللبنانية بأقسى الألفاظ والتهم. وواجه كل ذلك بالتي هي احسن. لم يستطع احد، في أي وقت، ان يأخذ عليه كلمة واحدة خارج حدود الأدب والخلق ومحبة الناس.

تلك هي القاعدة التي فقدناها. الحكام الذين يحبون ابناءهم. السياسيون الذين يحبون ارضهم. والمسؤولون الذين يضعون الأخلاق، او الحد الأدنى منها، قاعدة للعمل. لذلك يقوم في لبنان اليوم من يشتم الذين يبكون رفيق الحريري، في الوقت الذي يكتب عنه العالم العربي ما لم يكتبه عن سواه منذ سنوات طويلة. وفيما ينزل مليونا لبناني الى التعزية وتقام مجالس العزاء في العواصم العربية يقول وزير من حكومة عمر كرامي ان المعارضة اللبنانية «ندابة». فيرد أحد نواب المعارضة ان «الندابين أفضل من المجرمين».

فقد البعض حتى حاسة الادراك بما يجري من حولهم. وأما المعايير الأخلاقية والأدبية لدى البعض الآخر فهي لم تكن موجودة اساسا. ففي الماضي كان في لبنان مدرسة سياسية تعلم الحفاظ على الحدود الدنيا في كل شيء، حتى في السرقة والفساد، لكن المدرسة الجديدة لا معايير فيها ولا مقاييس. حتى آداب الحزن فيها مفقودة.

أريد هنا ان أمرر حاشية حول ما تعرض له بعض العمال السوريين في لبنان من مظاهر انتقامية. هذا عيب ولا اخلاق فيه. نحن مدينون لتعب وعرق العمال السوريين منذ ما قبل الحرب بكثير. وهم يشكلون منذ عقود طويلة جزءا من الأسرة اللبنانية العاملة والمنتجة. واذا كانوا في حاجة الى دخل من لبنان فنحن بحاجة الى تعبهم وعملهم. وليس من الجائز استغلال الموجة الحالية لتبرير الاعتداء عليهم. هناك ازمة بين المعارضة اللبنانية والحكم السوري، لكن ليس هناك شيء بين الشعب السوري والشعب اللبناني. لقد مرت الحكومات في خلافات ونزاعات كثيرة، لكن العلاقة بين البلدين لم تتغير. ولا يمكن لأحد ان يتصور قيام عداء أو قطيعة بينهما. بالعكس، يجب ان تكون الأزمة الحالية مدخلا الى قيام علاقة سوية وممتازة تستطيع الصمود في وجه الهزات. هذا هو المطلوب الآن اكثر من أي وقت مضى: أن نحول الاجماع اللبناني الذي قام بسبب استشهاد الرئيس الحريري، الى مناسبة مصارحة وجدانية تاريخية عملية، تنقذ العلاقة من مغبة المشاعر الملتهبة، هنا أو هناك.