الشاطر يفهم

TT

من صغري كنت أتحاشى بقدر ما أستطيع اختبارات الذكاء، ولا أذكر انه قد طُرح عليّ لغز من الألغاز وحللته صح، وكنت أنظر لمن (يتبارون) في هذا المجال، ويتحدّون بعضهم بعضا، كنت انظر إليهم بعين الإعجاب والحسد، واستعجب من مدى قدراتهم المذهلة، ومن أين أتوا بهذه الألمعية والذكاء الوقاد، وكنت كثيرا ما أسائل نفسي: هل هم أذكياء إلى هذا الحد؟!، أم أنني أنا الغبي البليد إلى هذه الدرجة؟!، والإجابة عن هذين السؤالين تكون دائما ليست في صالحي، فأصاب بالإحباط الذي يصل في بعض المرات إلى اليأس والقنوط، واذهب في تبرير ذلك، إلى أن هناك احتمالا في تخلفي العقلي، أو إذا أردت أن أخفف هذا الاحتمال أقول: إن هناك خللاً ما قد حصل في مرحلة النمو عندي، وتوقف ذلك النمو عند العاشرة من عمري ولم يتطور، وهذا ما أحسه فعلاً لا شعورياً، من حبي وتوقي للعب كالأطفال أحياناً، غير أنني أخجل من أن أظهر تلك الرغبات أمام الآخرين، فأظل طوال الوقت أحلم بيني وبين نفسي بلعبة (البربر)، و(الاستغماية)، و(نط الحبل)، وكذلك (المشاجرات) بطبيعة الحال. والذي دفعني إلى كتابة مثل هذه الخواطر التي أطرحها الآن، هو عندما أحرجني أحدهم في الليلة البارحة، وأحسست فعلاً أنني تهزأت، وذلك عندما سألني فجأة أمام بعض الحضور قائلاً: بما معناه: عاملي فالح يا مشعل وقاعد تكتب في الصحف، أي كلام طالع نازل وعلى الفاضي، هيا اعرف إن كنت تعتقد انك من سلالة آدم وحواء، هيا اعرف وأجب عن سؤالي: إذا كانت ثلاثة أيام إلى اليوم السابق ليوم الجمعة، فأي يوم سيكون بعد غد؟!، لم استطع أن أجزم له أنني من تلك السلالة، لأنني بصراحة غير متأكد من ذلك.

الواقع أنني (صفنت) كثيراً، ولا زلت صافناً حتى الآن، ليس لأنني عجزت عن حل اللغز، فذلك متوقع ومفروغ منه، ولكن عجزت أيضاً عن الكلام، مما جعله منظري يذهب في دور من القهقهة والرثاء على حالي. ثم اعتدل وقال: أريد أن اطرح عليك سؤالاً آخر أكثر سهولة، وأرجوك حرك مخك شويا، وبدون أن أحرك مخي، فرصعت له بعيني وكأنني أقول له: تكلم، فقال: انه أثناء حفريات أثرية، عثر احد علماء الآثار على قطعة نقد رومانية مرسوم عليها صورة (يوليوس قيصر)، وتاريخها مدموغ على أنها سكّت عام 44 ق م، غير أن عالم آثار آخر قال إن هذه القطعة مزورة وكان مصيبا، فكيف عرف ذلك؟!، واستطرد مواصلا كلامه معي قائلاً: إذا كانت أجابتك صائبة، فأنت أظهرت مهارتك في «الإدراك الانتقادي»، وهذا يمنحك مناعة ضد أشكال الدعاية، وضروب «الإقناع المبطن».

ولا أكذب عليكم لم أفهم ولا كلمة واحدة مما تفوه به، وظللت جالسا على الأرض كجلسة «بوذا»، وعلى «رأسي الطير»، بل إن صمتي كان يشنّف الآذان، وسقطت في الامتحان بالضربة القاضية.

غير أنني ورغم كل هذا الفشل الذريع، لم «أحقر» نفسي، وسألته وكأنني أترجاه: أسألك بالله كيف عرف عالم الآثار الثاني إنها مزيفة؟! فقال: بسيطة يا حلو، فكيف تسنى لمن سك هذه العملة أن يعرف أن المسيح سيولد في ذلك التاريخ وهو لم يولد بعد؟!.. هل فهمت الآن يا ذكي؟!، واعتقد انه كان كاذبا إلى ابعد الحدود عندما قال يا ذكي.

لكنني «بلعتها» ولذت بالصمت غير الجميل.