النومة الأبدية

TT

طقوس النوم عند الناس مختلفة، لا يستطيع أن ينام إلا والظلام مطبق في غرفته من كل جانب، بحيث انه هو لا يستطيع أن يرى اصبعه، وبعضهم بالعكس يخاف أشباح الظلام وعفاريته، ولا يحلو له أن تغمض أجفانه إلا على نور (اللمبة)، وهناك من يعشق صمت القبور، وهناك من لا يلين له جانب إلا إذا تقلب في فراشه على صوت الموسيقى أو (أليسا).. وبعضهم لا يطيق أحداً بجانبه، مهما كان ومهما حصل أو سيحصل، وبعضهم كالطفل الذي لم يفطم بعد، لا بد وأن يتشعلق بأي رقبة، ويغفو بأي حضن.

بالنسبة لي لا أطيق الصمت، لأن أي خبطة باب في البيت سوف توقظني، كما أن تسلط العصافير بزقزقتها المزعجة قبل أن تبزغ الشمس شيء لا يطاق، لهذا أفضل صوت المكيف المرتفع المتصل على وتيرة ثابتة، ليحجب عن أذني الموقرة أي (دوشة).

وأتذكر عندما كنت أتعاطى دراسة الفن في الخارج، كان يتحتم عليَّ بين الحين والآخر، أن أتنقل بين المناطق بالقطار وإذا كانت المسافة طويلة والوقت ليلا، أتكور على حالي بقدر ما أستطيع، وأذهب في سبات عميق على قرقعة عجلات القطار بالدرجة الثانية، مستلذا ومستمخا، ولكن حالما يقف القطار في إحدى المحطات، ويحل الصمت الثقيل أقفز من مكاني، وكأن أحدا لطمني على رأسي، تذكرت هذه المواقف التي كانت تحصل لي، عندما قرأت عن توقف شلالات (نياغرا) المشهورة لأول مرة في التاريخ المعلوم، وذلك عام 1848، حيث اختفى سقوط مياهها الهائلة، واستيقظ الأهالي من نومهم في ذعر، يسألون عن هذه الظاهرة العجيبة، التي لم يذكرها أجدادهم، وحملوا المشاعل وذهبوا إلى الشلالات ورأوا الطين يغطي القاع.. وتصف إحدى الجرائد التي كتبت عن تلك الظاهرة الفريدة تقول: لأول مرة في التاريخ سار الناس فوق شلالات نياغرا من ضفة إلى ضفة! وقال الناس إن ما حدث هو غضب من السماء، وامتلأت الكنائس بالمصلين الذين يتوقعون نهاية العالم.. وساد الذعر والخوف..

وفجأة عادت المياه إلى الشلالات في بطء، ثم أسرعت، ثم تدفقت بصوتها الهائل: واختفى الاصفرار من الوجوه وهدأت الأصابع المرتعشة ونام الناس!

وبعد فترة عرف الناس سر توقف الشلالات! ففي يوم 29 مارس، سدت جبال من الثلوج طريق جريان الماء، ومنعتها من الوصول إلى الشلالات! واستمر توقف المياه 30 ساعة حتى تكسر سد الثلوج.

وبعدها عاد النوم إلى الناس، بعد هذا الخوف والأرق الطويل، وذلك قبل أن يستغرقوا في النومة الأبدية، التي سوف نلحقهم ونشاركهم بها عن قريب.