الجريمة لا تفيد

TT

كان أول نبأ او خبر سياسي اعي سماعه، هو عندما كنت ألعب مع أترابي في ساحة القرية ذات صيف. وكانت مجموعة من الكبار تتحلق حول مذياع صغير بني اللون، يعمل على البطارية. ولاحظنا ونحن نتسابق ونتراكض ان الرجال اهبطوا أعناقهم فجأة حول الراديو مقرّبين آذانهم من الجهاز الصغير كأنهم لا يصدّقون. وبعد قليل تراجعوا، وقال احدهم لرجل مار من هناك: لقد قتلوا الملك عبد الله في القدس.

عندما تسلم الملك عبد الله الحسن الحكم في الاردن، سمي عبد الله الثاني. لم يغير نصف قرن من العنف أي شيء. الوحيد الذي تغير خلال هذه المرحلة هو تفاوت درجات العنف، من الاغتيال الفردي، الى محاولات الاغتيال الى الحرب الأهلية. لكن كل مظاهر وأشكال وأعمال العنف لم تؤد الى أي تغيير. وفي الجزائر سقط عشرات الآلاف من القتلى في عملية متعمدة وكاسرة بلا شفقة او تمييز. لكنها انتهت فقط بأن قبل قادة القتل الجماعي منة العفو السياسي. وفي مصر حاول العنف ان يلغي الدولة عبر تدمير مداخيلها وتجويع الناس وجعلهم يتكلون على ما تقدمه لهم الجمعيات الجاهزة المجهزة للمساعدة حتى في الزلازل. لكن العنف انحسر خائباً يبحث عن البدائل في العمل السلمي او المدني المتحضّر والمقبول من البشر. وفي العراق ذهب 8 ملايين إنسان يقترعون، فيما العنف يفجّر نفسه في الشوارع ويغطي الساحات بالدماء. لقد أدى العنف في الغالب الى نتائج عكسية تماماً. واقنع الناس بانتمائهم الإنساني وبضرورة الصمود في وجه الحلول الهمجية. وأخفقت 17 عاماً من الحرب الوحشية في لبنان في تدمير البلد المسالم الصغير. واتخذ العنف كل أشكال القوميات والوطنيات في تبرير القتل والموت، لكنه عاد فسقط تحت إقدام محبي الخير ودعاة التسامح وأبناء الانسانية. وأراد العنف الذي مزّق جسد رفيق الحريري ان يمزّق وحدة اللبنانيين، فوحّد بينهم كما لم يتوحدوا في تاريخهم من قبل.

لن يتوقف العنف عن إيذاء أصحابه ومبشريه. منذ سنوات لم أجد السعودية في هذا الاطمئنان كما رأيتها اليوم. والأصوات التي لم نكن نسمعها في الماضي خرجت كلها الى العلن الآن تستنكر وتلتحق بحرّاس الوحدة والأمن والوطن. وعندما ذهبت للقاء الأمير عبد الله بن عبد العزيز حاولت ان اطرح بعض الأسئلة في صوت منخفض، فقال حازماً: «ارفع صوتك، فإننا لم نتعود الصوت الخفيض في هذا البلد». سألت الأمير عبد الله ان كان أكثر ارتياحاً الى نتائج المعركة مع الإرهاب، فقال «ان الله مع الجماعة لا مع المارقين. لقد تقاسمنا مع هذا الشعب التمور الجافة يوم لم يكن هناك سواها، ونتقاسم معه الخير والمصير. ولن نسمح لأحد بأن يذل كرامة السعوديين او ان يتعدى على سكنيتهم وشعورهم بالطمأنينة. نحن في أعناقنا رسالة لن نسمح لمرجف بأن يشوهها او يلحق الأذى بشمولها الإنساني وسماحها العظيم. الإسلام هو الدين لا الإرهاب».

تاريخ طويل من العنف الأعمى وتاريخ طويل من الفشل. ولم يؤد العنف في العالم العربي الى شيء سوى إعاقة التقدم والنمو وتبديد السنين. وقد أخاف اغتيال رفيق الحريري الرساميل لكنه شجّع الناس على النزول الى الشوارع في تجمعات بشرية لم يعرفها لبنان من قبل. وكان في حياته موضع انتقاد ومعارضة من البعض، فحوله العنف الهمجي الى موضع تلاق ووحدة. أراد إزالته فزاد من وجوده.

منذ مقتل الملك عبد الله وأنا ولدٌ بعد، الى اغتيال رفيق الحريري، لا اذكر ان العنف أدى الى شيء سوى الى تكديس المقابر الجماعية في العالم العربي. أما العنف الإسرائيلي في وجه الفلسطيني فهو الذي أبقى قضيتهم قيد الحياة والاستمرار. وهو الذي حوّلهم من نازحين الى أبطال. ولن يؤدي العنف اليوم إلا الى ما أدى اليه عبر التاريخ: الانقلاب على صاحبه. الجريمة لا هوية لها ولا مفاضلة فيها. والقاتل يظل مجرماً سواء كان وطنياً او استعمارياً او محتلاً.