الإصلاح العربي ونظرية التطور.. والمشكلة العراقية

TT

بعد حضوري مؤتمر الإصلاح العربي في مكتبة الإسكندرية في العام الماضي، كتبت سلسلة مقالات في زاويتي هذه، ان مفتاح الإصلاح يبدأ بتدريس نظرية التطور أو كما تسمى أحياناً بنظرية النشوء والارتقاء، في مدارسنا ومعاهدنا. بالطبع لم اتوقع من أحد من المصلحين ولا المسؤولين ولا القراء ان يعير اقتراحي أي اعتبار. وطبعاً أنا كنت اتوقع هذا الصدود لأننا اساساً وجوهرياً لا نؤمن بالتطور. وهذه هي مصيبتنا. اننا نفكر وكأن كل شيء سيبقى على ما هو عليه. فنظرية التطور ليست محصورة بموضوع تطور الاحياء وتطور الكون، وانما تتعدى ذلك الى تطور المجتمع واللغة والاقتصاد والاحوال السياسية.

كلما استعرض تاريخنا الحديث (والقديم ايضاً) اجد ان الكثير من النكسات والمطبات والأزمات التي وقعنا فيها، سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية أو ما يجري الآن في العراق يعود الى جهلنا بنظرية التطور وديناميكية الاحداث وتصورنا ان الأمور تبقى كما هي، دعونا نأخذ القضية الفلسطينية. لو أننا قبلنا بالتقسيم الذي اقترحته بريطانيا عام 1937، أو حتى تقسيم الأمم المتحدة عام 1948 والتزمنا بالسلام لما بقيت اسرائيل لغير بضع سنوات، لكننا لم نفهم كيف ان الزمن دولاب والأحوال لا تبقى كما هي.

كانت القيادة العربية متمثلة بالمفتي محمد أمين الحسيني الذي طبعاً لم يؤمن بنظرية التطور وبالتالي لم يستوعب احكامها. في مقابله كانت القيادة الصهيونية بيد عالم كيميائي هو حاييم وايزمان. لم يؤمن فقط كعالم بنظرية التطور وانما تمسك بها ايضاً وبوحي تلك النظرية بما سماه بالصهيونية العضوية، أي نمو الدولة اليهودية نمواً عضوياً كالحيوانات والنباتات. رفض المفتي قرار التقسيم (1937)، لكن وايزمان قبله. وعندما ثار عليه اصحابه على قبول هذا القرار الذي اعتبروه مجحفاً ويضيع على اليهود كثيرا من المناطق التي تعلقوا بها، أجابهم قائلاً: «لكن هذه المناطق لن تهرب منا!». انه جواب المؤمن بالتطور والمرحلية ومنطق «خذ وطالب» الذي آمن به ودعا اليه بورقيبة الذي تميز عن كل ساستنا بفهمه لمنطق التطور المرحلي، وشتمناه وخوناه، لمجرد اننا لم نفهم هذا المنطق العلمي.

ما سر عجزنا عن اقامة الديمقراطية؟ ايضاً لأننا لا نفهم منطق التطور، منطق الزمن دولاب، يوم لك ويوم عليك. تخسر الحكم والانتخابات الآن، لكن بإمكانك استعادته بالجد والعمل وبالتفكير وبتطور الأحداث ومرور الايام. طالما عانيت وسئمت خلال عملي ضمن صفوف المعارضة العراقية.

لم أفهم كل هذه المنازعات بين الأحزاب والطوائف والقوميات. الكرد يقولون يجب ان يكون لنا الربع والعرب يعارضون ويقولون لا بل انتم خمس السكان. الشيعة يقولون ويطالبون بالاكثرية والسنة يقولون لا بل نحن الاكثرية. يا جماعة لم كل هذا النزاع؟ الا تؤمنون بالديمقراطية؟ وألا تعتمد الديمقراطية على التصويت؟ الاصوات المقترعة هي التي تفتي بالأمر وتحسم النزاع وتقول من عنده الاكثرية ومن عنده الاقلية. لم يستمع أحد لمقالي. لماذا لم يستمعوا وأصروا على النزاع الفئوي؟ لأنهم اساساً لا يؤمنون بقدسية التصويت والديمقراطية. ولماذا لا يتمسكون بها؟ لأنهم لا يؤمنون بالتطور. اذا خسروا الآن فسيبقون خاسرين الى يوم القيامة. هذا هو تصورهم. عجلة التاريخ واقفة لا تدور بالنسبة لهم.

والآن نأتي الى الانسداد الحالي في العراق. يقول السنة انهم هم الاكثرية. حسناً فما الشدة يا رسول الله. ادخلوا الانتخابات واحصلوا على اكثرية المقاعد. يقولون هذه ليست ظروفاً مناسبة والأمن في اختلال.

حسنا. ساعدوا الدولة بإيقاف الارهاب وتوفير الأمن. اذا فشلتم في هذه الانتخابات فأمامكم فرصة ثانية وثالثة الى ما لا نهاية لتصحيح الوضع ونيل الاكثرية. رفضهم لمنطق التطور الديمقراطي أوقعهم في الورطة التي هم فيها الآن. لم يبق خيار لهم غير الاعتماد على العنف وتغيير كفة الميزان بالقوة. لا أدري كيف ستستطيع الحكومة المقبلة تخليص المواطنين من سطوة الارهاب والعنف وانعدام الأمن، العالم ينتظر من الأميركان والانجليز الالتزام بالديمقراطية والقانون في العراق، والا فإن تبريراتهم للغزو ستتبدد. سيستبدلون دكتاتورية بدكتاتورية. لكن الوضع الأمني في العراق حالياً وصل درجة لا يمكن فيها استعادة الأمن بالطرق الديمقراطية والقانونية. الحكومة المقبلة ستجد نفسها في حيص بيص. وبالتالي سيستمر الارهاب والعنف والفوضى.

وهنا يتحمل الشيعة الجزء الآخر من المسؤولية، ولنفس السبب، عدم استيعاب فكرة التطور ودوران عجلة التاريخ. المشكلة الراهنة في العراق هي اختلال الأمن. كان بإمكان الشيعة دعوة القيادات السنية لتسلم الحكم. فعندما يجد العرب ان الوضع التقليدي في العراق لم يتغير ولم يتكون هلال شيعي من ايران الى البحر المتوسط، فإنهم سيكفون ايديهم عن التدخل في العراق.

بعين الوقت سيستطيع الحكام السنة الضغط على الارهابيين لالقاء سلاحهم. تنحسر الاضطرابات ويعود الأمن تدريجياً. ثم تجري انتخابات شرعية حرة. اذا كان الشيعة يعتقدون بأنهم هم الأكثرية فسيفوزون بأكثرية المجلس وتؤهلهم الاكثرية لتسم الحكم. وهنا يأتي دور قوات التحالف التي تتولى مسؤولية ارغام الحكومة السنية على القيام بالانتخابات النزيهة الموعودة.

لم تفكر القيادات الشيعية بهذا التسلسل السلس والسلمي والانساني لأنها لا تؤمن بمقولة وايزمان عن التطور العضوي او ايمان بورقيبة بالمرحلية. قام المنطق الذي اهتدوا به على فكرة «عصفور باليد خير من عشرة في الغد». يقوم هذا القول المأثور على رفض فكرة التطور والنشوء والارتقاء. وهو على ما يبدو الاساس الذي سار بمقتضاه أكثر المسؤولين منذ سقوط صدام، وأدى الى هذه السرقات والفضائح. فلم ينظر كل مسؤول الى ايام بعد يومه فعمد الى اغتنام يومه ولتذهب بقية الايام للجحيم.

عصفور في اليد خير من عشرة في الغد. هذا هو المنطق الذي عبر عنه ذلك الإعرابي الذي عمل وليمة لضيف زاره. سأله الضيف ماذا تسمون هذه الأكلة فقال انها «السخين» فسأله الضيف وماذا تسمونها عندما تبرد فقال له «وهل نتركها حتى تبرد؟».

يجسم جواب هذا الإعرابي منطق التفكير العربي الرافض لمنطق التطور خير تجسيم وبأقل ما يمكن من الكلمات. وفي تطبيقه على العراق، لا أرى في البلورة السحرية الآن غير خيالات الإرهاب والعنف واختلال الأمن والسلام. ووراء هذه الخيالات أرى طيف صدام حسين آخر، أو طيف حجاج آخر، يمسك بسيفه وينحر رؤوس الناحرين وغير الناحرين.