كرامته

TT

خرج عمر كرامي من رئاسة الحكومة اللبنانية مستعيدا شيئا مما فقد في الأيام الأخيرة. وكان قد فقد الكثير. غير انه من الأفضل للمرء ان يخسر شيئا من كرامته على ان يخسرها كلها. وكان بعض وزراء كرامي قد افقدوه الكثير من كرامته. وكانوا، بمجرد وجودهم الى جانبه، يفقدونه شيئا من سيرة آل كرامي وتراث العائلة الوطني في تاريخ لبنان وعروبته. لقد شعرت وأنا أرى عمر كرامي خارجا من مجلس النواب بانه عائد الى عائلته وتراثها. الى تراث والده عبد الحميد كرامي الذي اصبح مفتيا على طرابلس وهو في السابعة عشرة من العمر. ويوم توفي الزعيم عبد الحميد كرامي سار الناس خلف جثمانه الى جامع المنصوري وهم يهتفون ضد خصميه، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، صارخين: «لا إله إلا الله وبشارة ورياض عدوا الله».

وبعد الصلاة على الجثمان وقف بشارة الخوري، فارس منابر العرب آنذاك، يلقي رثاءه في فقيد لبنان. ومما قاله: «ربك الذي خلق السموات والأرض، وجعل من تلك الفانية موطئاً لقدميك، سبحانه الذي سخر القدر ليصرعك في يوم الاستقلال، ليتحد يومك بيومه، ويمتزج ذكرك بذكراه، تبارك اسمه وتعالى، في السراء والضراء، في النكبة وفي العزاء، وإنا لله وإنا اليه راجعون».

وما ان انتهى الشيخ الخطيب، حتى طافت جماهير المدينة في شوارعها تهتف «لا إله إلا الله، والشيخ بشارة حبيب الله».

ذلك كان مستوى الخطاب السياسي في لبنان ذلك العصر. قال بشارة الخوري راثيا عبد الحميد: «علوت الى خير الظهور. ونشأت وترعرت في بيت كان الافتاء فيه ميراثا فعاد اليك. وسدت العشيرة امردا وحملك مواطنوك عن حق الى الندوة اللبنانية فكنت الفارس الذي لا يشق له غبار (...) اللهم لقد أخذت منا سياسيا كبيرا، فهو ومن سبقه من لبنانيين افضل سفراء لبنان اليك. وإن ستروا وجوههم أمام عرشك، ليضرعوا اليك ان تجنب لبنان البغضاء والشقاق والطائفية».

كانت في بلاغة بشارة الخوري اللغوية بلاغة الرئيس الضنين بشعبه وارضه، الخائف على الميثاق من السوقة، المتضرع الى العزة الإلهية باسم كبار لبنان وصانعي استقلاله، خوفا على ما تركوه من ارث عاطر وذكر كريم. ذلك كان عصر العمالقة الذين ينقبون عن الكلمة كما لو انهم ينقبون عن الذهب ويحفرون في الماس. فلا كلام يلقى كأن الشهادة تسلية والقيادة امثال شعبية فلاحية طائشة لم يتم العثور على سواها.

شكرا لعمر كرامي. ليس لأنه استقال، بل لأنه عاد الى ارثه. لأنه رفع اسمه عن لائحة ضمت وزيرا يسمي رفيق الحريري بأنه «بركيل قريطم» (فرخ الأفعى) وآخر يقول ان الناس تبكي على ضريحه.