وزير إعلام لكنه ليس «علوجيا» !

TT

أن تنفي شبهك بأحمد سعيد، أو محمد سعيد الصحاف، وزير «العلوج» العراقي، وأنت تطل للمرة الاولى على الجمهور بوصفك وزير اعلام عربيا، فإنها تعتبر بداية جيدة ولطيفة... أليس كذلك ؟

هذا ما صنعه وزير الثقافة والاعلام السعودي الجديد الدكتور إياد مدني، أثناء مخاطبته لضيوف مهرجان «الجنادرية » للتراث والثقافة الأخير، في حفل الاستقبال الذي أعده لهم بالرياض.

الوزير طالب الحضور أن يغيروا افكارهم النمطية عن وزير الاعلام، أقلها بالنسبة له: «إذا كانوا يتوقعون وزيراً يذكرهم بالمذيع المصري الشهير (أحمد سعيد) أو بوزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف». وقال الوزير إن البيروقراطية ذات سمعة سيئة «وما بالكم اذا اقترنت بالبيروقراطية الاعلامية».

لا ريب أنها بداية مشجعة، وتعارف وردي بين من يفترض فيه، بحكم عمله، «ضبط» الإعلام الداخلي، وبين الصحافيين والاعلاميين الذين لا يتوقفون عن التذمر، سرا او جهرا، من قيود وتحكمات وزارة الاعلام، ووطأتها الثقيلة على صدر الكلمة.

لكن، ورغم حلاوة هذه الكلمات ومردودها الايجابي على نفسية الاعلامي، الا انها تبقى تطمينات، لا ترقى الى مستوى الحديث عن وجود ثقافة إعلامية جديدة.

فما زال الحديث مبكرا عن تلك الثقافة التي تدرك أنه يجب رفع السقف قدر ما تتسع له السماء، والكف عن التعاطي مع معايير المسموح والممنوع، بنفس الذهنية القديمة التي كانت تشتغل في ظل واقع لا توجد فيه فضائيات تتكاثر كل يوم، وتقول في السياسات العربية، وفي الساسة والحكومات، ما لم يقله مالك في الخمر، وشبكة إنترنت تقول منتدياتها ما يعرق له وجه الرقابة العربية التقليدية !

غير أن هذه التطورات المتسارعة لم تستطع الرقابة الاعلامية العربية الرسمية ان ترتقي الى مستواها، ما يجعل بعض التحفظات والمحاذير، التي يعرفها من يكتب او ينشط في الاعلام، مدعاة للاستغراب، فهي معايير واطئة ومنخفضة جدا، ترغم الاعلامي على البقاء ملتصقا بأرض الرقيب، في حين أن الجو مزدحم بطيور من كل صنف ولون، تغرد، وبعضها ينعب ايضا ! لا يهم، المهم أنها حقيقة واقعية موجودة امامك، لا مناص من التعاطي معها والدخول في لعبتها.

وبما أنه لا حديث يستولي على المشهد العربي الآن إلا حديث الاصلاح والتغيير، من الماء الى الماء، فإن الاصلاح الاعلامي جزء من هذا الحديث الشامل. الغريب ان الشكوى من الوضع الاعلامي لم تقتصر على العاملين المستقلين، وحتى من غير المستقلين من الكوادر المتوسطة والدنيا في مجال الاعلام، فهذا شيء طبيعي في ظل وجود تنافس شديد يتطلب مواصفات مختلفة يأتي في مقدمها تقليص الرقابة الرسمية وتوسيع الحرية في النشر، بل تعدى هذا الاستياء الى الحكومات والسلطات العربية نفسها.

ففي الاردن الذي كان من أوائل الدول العربية التي الغت وزارة الاعلام، كان الملك عبد الله من أول المشجعين على تطوير ورفع كفاءة الاعلام، وطالب بحرية تعبيره وان يكون قادرا على تجسيد التحولات التي تحدث في المملكة الاردنية. والغريب ان الغاء وزارة الاعلام في الاردن لقي ترحيبا من الرسميين الاردنيين وأرباب المناصب الرسمية فيه!

والحق ان المراقب لا يدري الى الآن ما جدوى بقاء وزارات الاعلام العربية، في ظل تقلص قدرتها على التحكم بما يصل وما لا يصل الى المشاهد والمستمع والقارئ؟

هذا مع الإقرار بحق الحكومة، كأي طرف اخر، ان توصل صوتها وتشرح اهدافها، وتدافع عن سياساتها، ولكن ذلك ممكن الحصول بطرق متعددة ومتنوعة، ليس من اهمها تعظيم وتوسيع دور وزارة الاعلام وفرد مظلتها وامتداد ظلها المهيب على كل الأمكنة.

بل على العكس من ذلك فأن تخفف الحكومات من تبعات الملف الاعلامي، وتفتيت الصلاحيات والمسؤوليات فيه، سيعود بالعافية على الاعلام نفسه، ثم انه سيخلي جانب الحكومة من اكثر الانتقادات التي توجه الآن لما يقال ويكتب في الاعلام العربي، لأن المراقب الخارجي، والداخلي ايضا، يعتقد ان الاعلام الداخلي كله محكوم ومسقوف بسقف السلطة السياسية، ولا يخرج شيء الا برضاها، مع ان الداخل في تفاصيل العمل الاعلامي يدرك ان الامور ليست بهذه الصرامة التي تقال، ولا يوجد استيلاء كلي على مجمل التفاصيل في الاعلام، على الاقل في بعض الدول العربية. لكن ما الجدوى من هذه المعرفة اذا كان هذا هو المستقر في الشعور العام؟!

وبالعودة الى الساحة الاردنية، وجدوى التخلي الحكومي عن وزارة الاعلام، عبر جعلها جزءا من الماضي الاداري، فقد رأى مراقبون اردنيون أن :«إصلاح الاعلام الرسمي في الاردن وتحريره من الهواجس الأمنية المزمنة، وفك الارتباط بينه وبين الدولة، أبرز التحديات التي ستمتحن قدرة الحكومة الاردنية».

إن هذا الكلام، عن تعطيل الرسمي العربي لنمو الاعلام العربي المستقل، كما المحلي، لا يعني بحال من الاحوال تبرئة المؤسسات الاعلامية غير الحكومية، أو أننا نعتقد أنها هي الملجأ من رتابة ورسمية الاعلام الداخلي او الحكومي، لا بل ان بعض هذه الجهات الاعلامية المستقلة جعلتنا نترحم على تقليدية ورتابة الاعلام الحكومي، فمن يغذي التطرف الديني في العالم العربي، ويمجد من خط القاعدة، ويبشر بشرائط «الشيخ» اسامة بن لادن، كما يحلو لضيوف مزمنين على فضائية «الجزيرة» القطرية ان يدعوه، ومن يذهب في الاستديو «التحليلي» بخطاب بن لادن او الظواهري الى اقصى نقطة ممكنة.... الخ.

من تفعل كل ذلك، واسوأ من ذلك، هي جهة اعلامية عربية «مستقلة»، وتفتتخر بـ«استقلالها»، كما تقول!.

ولن أتحدث عن صحف وفضائيات عربية أخرى، لا تقود الا الى دنيا الاصولية وغابة الديكتاتورية، في نفس اللحظة التي تقول انها تحارب الظلم والاستبداد، اقصد تلك الاصوات الاعلامية التي تمجد بعث صدام حسين او بعث سوريا، او كتاب القذافي الاخضر... اوارق مختلطة وعقول مشوشة، تجعلنا نقول عن هذا النموذج المغذي لشجرة التخلف بحجة الثورة على الراهن :

رب يوم بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه

لكن هذا لا يعني ان كل صوت ناقد للوضع العربي القائم بالضرورة، من هذه الفصيلة المتجهة الى الخلف دوما، بل ان هناك من يصوب ويعدل ويجرح وينتقد، من اجل المستقبل، غير لاجئ، تحت حرقة الشعور بالهوان من التردي العام، الى خيارات عدمية ومدمرة، مثل خيار بن لادن أو تمثيلاته القومية.

إن الحديث عن مداعبة الوزير السعودي اياد مدني، وهو الاعلامي المثقف، اي انه ابن مهنة عريق، يجعلنا نتوقع منه فهما اكثر لهواجس، كهذه الهواجس، التي طرحت ها هنا، ولا اعتقد انه يرى ان الاعلام العربي، الخاضع في مجمله لمرجعيتين: إما مرجعية السلطة، او مرجعية الخطاب الاسلامي المسيس، أو القومي، أن هذا الاعلام رافعة نهضة وموئل معلومة حقيقية مهنية، فضلا أن اطمع بكونه محضنا للعقلانية والتنوير، ولا اريده ان يكون كذلك، كل ما نطلبه هو ان يكون اعلاما حقيقيا، وكفى.

ثم ان نقد الوضع الاعلامي نفسه ليس بجديد على اياد مدني، رئيس تحرير صحيفة «سعودي غازيت» السابق ومدير عام مؤسسة «عكاظ للصحافة والنشر»، السابق ايضا، وابن الاديب والصحافي امين مدني.

ولا نريد ان نذكر «الكاتب» اياد مدني بكلماته القديمة، حول وجوب اصلاح الاعلام ورفع القيود، فتلك ايام مضت، يبقى ان ننتظر حصاد الفعل بعد ان تسنم «معاليه» سدة الوزارة الساخنة.

وكما يقول بعض الاعلاميين العرب، فإنه لا توزاي وزارة الداخلية أهمية في مجتمعاتنا الا وزارة الاعلام، بسبب ارتفاع حس الرقابة والوصاية، حتى من جهات ليس من شأنها، نظاميا، ان تتولى مهمة الرقابة والتوجيه، إما بسبب خوف موهوم على الفضيلة او على الافكار او على «الصالح العام» وفي محتوى هذه الكلمة تتسع التأويلات وتضيق، من دون وضوح او حسم.

لا نريد ان نفرط في التفاؤل، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله. ويبقى ان تعيين مثقف واعلامي، وخفيف ظل، يقول النكتة، واستطرادا يقبلها، هو من خير ما يمكن حصوله والقبول به في شرطنا السياسي والاجتماعي.

[email protected]