لا دفاعا عن سورية وعمر كرامي... ولكن

TT

كتبت هذا الحديث مساء الأحد، كالعادة لضرورات النشر الفنية، وأنا لا أعرف ماذا سيحدث يوم الاثنين (أمس) في لبنان الموعود بإضراب عام، وتظاهرات شارعية صاخبة، وجلسة نيابية ساخنة.

آمل أن تكون الحكمة قد تغلبت، فأدخل كل لبناني رأسه في ثلاجة بيته، قبل أن ينزل بأعصابه الفائرة إلى الشارع. وأتمنى أن يكون الأمن قد حضر بكثافة في الشارع للفصل بين المتظاهرين، بعدما غاب عن الشارع ذاته الذي اغتيل فيه الحريري.

القضية الأهم الآن: هل اغتيال الحريري أدخل لبنان في فلك المتغيرات الجارية والمتوقعة التي تقلب «الأمر الواقع» الذي عاشت فيه المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين؟

الجواب ليس عند السوريين والدوليين المتورطين في لبنان، إنما الجواب عند اللبنانيين أنفسهم. نعم، الاغتيال السياسي قد يُحدث زلازل وكوارث. لكن المجتمعات تظل متحكمة بمصيرها. ليس دفاعا عن سورية أو لحود أو عمر كرامي القول إن المعارضة اللبنانية، إذا واصلت مسيرتها السياسية الراهنة، فستضع لبنان في شدق خطر كبير.

صحيح القول إن الحرب الأهلية مستبعدة، لأن اللبنانيين جميعا استخلصوا العِبر من مآسي حرب استمرت خمس عشرة سنة. لكن استدعاء العامل الإقليمي والدولي، إلى درجة المطالبة بانتداب مسلح أوروبي أو أميركي، سيؤدي حتما إلى تهيئة الظروف لإشعال حرب أهلية، أو لفرض حرب على اللبنانيين تشعلها منظمات وخلايا وميليشيات نائمة الآن، ومستعدة للتحرك بالـ «ريموت كونترول» من الخارج.

الحروب الأهلية أشبه بالمنخفض الجوي الذي يستدعي الرياح المجاورة. هل كان يخطر على بال اللبنانيين أن حربهم ستجر سورية وإسرائيل وأميركا وأوروبا إلى التدخل المسلح في لبنان؟ وهل كان يخطر على بال المعارضة العراقية أن توريط أميركا في غزو بلدهم سيحوله مستنقعا للإرهاب، و«حوزة» ديمقراطية ملفوفة بعباءة فارسية؟

واقع أضعه، بصدق ونزاهة، أمام المعارضة اللبنانية، لأقول إن النزول إلى الشارع بقضية عاطفية مؤثرة كاغتيال الحريري، سوف يلهب عواطف ومشاعر فرقاء لا يقلون قوة ونفوذا وتأثيرا عن المعارضة. هؤلاء الفرقاء تأثروا جدا لاغتيال الحريري، لكن الأعلام والشعارات والتصريحات ومفردات السباب والاتهامات التي شكلت الخطاب السياسي المعارض، جعلت الفريق الآخر يعيد النظر في «عقلانية» المعارضة و«موضوعيتها» وأغراضها الخفية والظاهرة، وأهليتها لتحمل المسؤولية، سواء ظلت في المعارضة، أو أمسكت بالسلطة.

الحوار داخل المؤسسات، مهما كانت هشة، يجنب القوى السياسية المتحاورة غرائز وانفعالات الشارع المتقلب العواطف. المشكلة في لبنان أن ديمقراطيته المبكرة ظلت طائفية. وبمصارحة أكبر، ليس هناك في لبنان شعب. هناك طوائف متهادنة متحاورة حينا، متناحرة ومتحاربة حينا. ليست هناك سياسة في لبنان. هناك أشخاص وزعامات. ليست هناك مؤسسات حزبية ديمقراطية تخترق الطوائف، لتبلور الآراء والمواقف المتباينة في القضايا السياسية والوطنية.

قفزت المعارضة فوق الفريق الآخر العريض للمطالبة بحوار مع سورية. أية دولة لا تستطيع أن تجلس علنا مع فريق في دولة أخرى، لتدخل معه في مساومة، وتتجاهل نظاما وحكومة وفرقاء موجودين ولا يمكن تجاهلهم.

جلوس المعارضة مع فريق «الموالاة» ليس تمييعا أو تأجيلا لقضية الانسحاب السوري. حان لسورية أن تدرك أن وجودها العسكري والمخابراتي في لبنان لم يعد مقبولا في ظروف المتغيرات الدولية والإقليمية. لسوء حظ النظام السوري، فإن غياب الحريري فصل الانسحاب من لبنان عن انسحاب إسرائيل من الجولان. لم تعد مزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل تصلح لاستمرار عسكرة «حزب الله»، والحيلولة دون امتداد سلطة الجيش اللبناني ـ المسلح والمدرب سورياً ـ الى الجنوب. «حزب الله» الذي حققت الشيعة من خلاله نصرا باهرا على إسرائيل، من دون أن تشاركها الطوائف الأخرى في آلامها وتضحياتها، عليه ان يختار الآن بين أن يبقى ميليشيا أو حزبا سياسيا. المساومة أداة التسوية. الحوار بين المعارضة والموالاة يجب أن يؤدي إلى تهدئة ومصالحة، تنبثق عنهما حكومة وطنية مشتركة. هذه الحكومة، الممثلة فيها المعارضة، هي التي تدخل في حوار تفاوضي مع سورية لجدولة الانسحاب. والأفضل تأجيل الانتخابات الى ما بعد الانسحاب. فما دامت لسورية أجهزة أمنية في لبنان، فكل انتخابات مشكوك في حيادها ونزاهتها. هذا يعني الاستغناء بعد المصالحة عن حكومة كرامي التي جاءت أصلا لإجراء انتخابات ستزيد من الفرقة أكثر مما توفر عوامل الوحدة.

وضع اغتيال الحريري أجنحة الموالاة في موقف الدفاع والاعتذار. لكن تمادي المعارضة في خطابها الاستفزازي سياسيا وشارعيا، سيحرك هذه الأجنحة ليس للدفاع عن وجود سوري بات غير مرغوب فيه، لكن للدفاع عن نفسها ووجودها ورؤاها المختلفة. وإذا ما نزلت هذه القوى إلى الشارع، فستدرك المعارضة أي خطأ ارتكبته.

أذهب في استشفاف المستقبل إلى أبعد من ذلك، فأقول بأن مسيرة المعارضة الراهنة في استفزازية خطابها السياسي، وفي هجمتها على سورية استغلالا لأخطائها المخابراتية في لبنان، وفي استدعائها الأجنبي البعيد للتدخل والتورط... سيضع لبنان حتما في أتون المتغيرات الطائفية التي تهب على المنطقة، بداية من التغيير في العراق. لا أقصد «تخويف» المعارضة المسيحية ـ الدرزية في لبنان، عندما أقول إن إطلاق الغرائز السياسية بلا ضوابط، سيجعل الشيعة اللبنانية الأصولية والعلمانية واقعية ومنطقية، إذا ما طالبت بحكم لبنان، استنادا لامتلاكها الأغلبية العددية التي أهَّلت الشيعة العراقية لحكم العراق.

البرنامج السياسي المعلن الواضح في الأغراض والتفاصيل هو الحد الأدنى لبناء معارضة سياسية مشروعة وبناءة. الاستفزاز ليس أداة للحوار. اغتيال شخصية سياسية أو معاداة بلد مجاور شقيق لا يشكلان منهجا ثابتاً يلتقي عليه المعارضون. معارضة «قرنة شهوان» تظل في القرنة، حتى ولو انضمت إليها معارضة وليد جنبلاط، فهي في الأصل قوى وشخصيات طائفية محبطة.

لا أريد أن أسأل ما الذي يجمع بين جنبلاط العروبي المؤيد لبقاء سورية في سهل البقاع «الشيعي»، فيما معارضو القرنة يطالبون بانسحابها إلى ما وراء الحدود، ويهددونها بأميركا وأوروبا. كان تأثير جنبلاط واضحا في قبول معارضي القرنة باتفاق الطائف الوفاقي. لكن إذا كان لجنبلاط أن يتبنى معارضة وطنية مع حلفائه المسيحيين، فعليه أن يقنعهم أيضا بعروبة لبنان، وبمد صلاتهم الى عالم عربي ودود معهم. فلا عودة الى شعار الشيخ بيار أبي أمين وبشير (لبنان قوي في ضعفه)، فلبنان قوي بحضوره الثقافي في المنطقة العربية.

هذه المناشدة لمعارضة «قرنة شهوان» ليست دفاعا عن بلدي سورية. فقد خرجت من لبنان عندما دخلت سورية عليه. وبعدما رأيت ما فعل «الفدائي» الفلسطيني في لبنان، لم أكن أرغب في أن أرى ماذا سيفعل «الشرطي والمخابراتي» السوري فيه.

مصارحة القرنة بلغة الواقع ليست أيضاً دفاعا عن عمر كرامي وحكومته. كان عليه أن يستقيل. فقد تحمل في مهادنته الغمز واللمز. وها هو يتحمل فوق ما يطيق صبر الساسة، عندما صارح اللبنانيين بأن جيشهم معرض للتفتت عندما تصطدم الطوائف بالطوائف.