البعض متواطئ.. والكل يخسر

TT

«هل نغازل نساءنا بالإنكليزية أيضاً؟». هكذا سألني طالب جامعي حانق.

بدأ هذا الشهر فصل دراسي آخر في جامعة الإمارات، لكنه ليس ككل الفصول الماضية في حياة هذه الجامعة البالغة 28 عاماً. الجديد يتجاوز هذه الجامعة، ويتجاوز دولة الإمارات نفسها، فهو يعني العرب من عمان وحتى موريتانيا: التحول عن التدريس من العربية إلى الإنكليزية. الأمر نفسه كان موجوداً لسنوات طويلة في تخصصات الطب والهندسة والإدارة، لكن الفارق الآن هو أن تدريس علوم اجتماعية وإنسانية، كالتاريخ وعلم النفس صار يتم بكتب انكليزية وصرنا كأساتذة نرطن لأبنائنا وبناتنا بلغة الأنغلوساكسون. التدريس بالإنكليزية للعلوم الاجتماعية والإنسانية موجود في جامعات عديدة في العالم العربي، إلا أنها كانت باستمرار جامعات أمريكية أصلاً، لكن التحول للتدريس باللغة الإنكليزية بات يطال جامعات عربية كثيرة، وعديد منها حكومي (الأردن على سبيل المثال).

وكما هو متوقع، فهناك ضجة كبيرة في أوساط الأكاديميين العاملين، وهذه الضجة لها صداها في داخل المجتمع نفسه، وكذلك بين الطلاب والطالبات. وتعكس الضجة الانقسام الحاد بين أولئك الذين ينظرون للتعليم بالإنكليزية كتطوير وكضرورة، والفريق الآخر الذي لا يرى في الأمر إلا هجمة ثقافية أخرى لمسخ هويتنا القومية.

يحتج خصوم التدريس بالانكليزية بأنه لا توجد ضرورة علمية، وبأن الطلاب غير مستعدين لهذه الخطوة لأن التعليم العام، الذي أتوا منه لا يمكنهم من التعلم بغير لغتهم الأم، وأن البرنامج الجديد يسطّح المعرفة إذ يضطر الأساتذة لتخفيف المحتوى العلمي مجاراة لضعف اللغة الأجنبية، أي أن درس السياسة والجغرافيا كثيراً ما يتحول إلى درس تقوية للغة الانكليزية. ويرى هذا الفريق أن الأسهل من ذلك بدء عملية ترجمة واسعة للكتب والمراجع الأجنبية، حفاظاً على المضمون العلمي القوي وتيسيراً لعملية التعليم نفسها على الطلاب، وفوق ذلك احتراماً لثقافتنا العربية وحماية لها من التهميش.

لكن المعسكر الآخر يرد بأن التعليم العام وليس الجامعي، هو المكان لبناء الشخصية الوطنية، وأن فترة 12 عاماً من ذلك أكثر من كافية لتعزيز الهوية العربية، وأن التعليم الجامعي هو أساساً، لتمكين الطالب والطالبة من اكتساب مهارات تلبي حاجات سوق العمل، الذي بات يرى في الانكليزية ضرورة لا غنى عنها في أغلب الوظائف والأعمال. إلى ذلك فمن المستحيل مجاراة حركة الترجمة نظراً لكمية المواد التي تتدفق يومياً من مطابع الغرب، وأن الدوريات العلمية بالذات تصعب ترجمتها بالسرعة الكافية للطلاب بسبب كثرتها وتوالي أعدادها شهراً بعد شهر وفصلاً إثر آخر.

والضجة الدائرة حول التدريس بالانكليزية تثير أمراً أخطر من ذلك حول عملية التعليم الجامعي برمتها. فلا يتطلب الموضوع عبقرية لاكتشاف عملية تواطؤ واسع تتشارك فيه الحكومات وأولياء الأمور والطلاب أنفسهم. فالحكومات تزعم لشعوبها أنها توفر التعليم للجميع، وتتجاهل أنها لا توفر الموارد الكافية ليكون تعليماً فعالاً لكشف المواهب وصقلها. أولياء الأمور أيضاً يمارسون خداع النفس، لأنهم يوهمون أنفسهم أنهم بإرسال أبنائهم وبناتهم للمدارس الحكومية، فإنهم يمنحونهم تعليماً يعفيهم من بذل مالهم لأبنائهم وبناتهم. أما الطلاب فمن منهم في هذا العمر الغض، يغضب على هدر قدراته وإفساد مستقبله؟. كلهم يطلب السهل، وكلهم يمارس الغش، لا في الامتحانات، بل على النفس.

والنتيجة ضعف فاحش في نيل المعرفة، إلى الحد الذي يجعل من المشروع لنا أن نسأل: كيف نثق بمهندس أو طبيب تخرج من جامعاتنا العربية ليبني بيتنا أو ليعالجنا؟.

الكل يخسر. فالحكومة توظف أشخاصاً بقدرات متواضعة، والمؤسسات الخاصة لن تمتلك الكفاءات التي تساعدها لتعمل أفضل أو لتنافس عالمياً.. والأسوأ من ذلك أن غياب الكفاءة يدمر أخلاق العمل وينشر نفسية مريضة في المجتمع تقبل سوء الأداء في كافة أوجه حياتنا العامة والخاصة. هناك جيش يهرول للتعليم الجامعي وهو فاقد لمقومات الدراسة الجامعية، يرغم أساتذته على خفض التعليم ليتكيّف مع مستواه المتواضع. ولا يلوم الإنسان الطلاب على تدني مستواهم. فالحكومات نفسها هي التي أجرمت بحقهم إذ سرقت وقتهم وطاقتهم سنوات طويلة في مناهج سقيمة، ومع أساتذة مطحونين بأزماتهم المعيشية، وعاجزين عن الانصراف لعملهم وإعطائه ما يستحقه من تفان.

كيف تحول التعليم إلى عملية الاحتيال الجماعية هذه؟ أول الأخطاء يكمن في التعظيم المفرط للتعليم الجامعي، وكأنه عصا موسى الكفيلة بشق كل بحر وحل كل عقدة. والنتيجة أن التعليم الجامعي صار كشركات الدواجن ينتج الفراريج بالآلاف كل يوم، ونحن نفرح بهذه الأرقام، ولا نتوقف لنعي عبث هذه السياسات.

التعليم الجامعي في مجال الإنسانيات والدراسات الاجتماعية ضرورة قصوى لكل مجتمع، لفهم تاريخه المنطوي ومجتمعه الراهن وطبيعة أفراده والعلاقات التي تربطهم والمؤسسات العامة والخاصة التي تنظم حياتهم.. لكن هذا الجهد لا يجب أن تنصرف له أعداد ضخمة من الطلاب. المطلوب فئة قليلة، تمتلك الموهبة الضرورية لدراسة الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، يتجه بعض أفرادها للتدريس وآخرون للعمل البحثي والاستشاري والمهني. أما الغالبية العظمى من الطلاب والطالبات فيجب أن تتجه للعلوم والمعارف التطبيقية المرتبطة بالإنتاج; وهي لا يجب أن تكون مضطرة لنيل هذه المعارف في أروقة الحرم الجامعي، بل على العكس، الكثرة العظمى منهم يجب أن تنال تعليمها في معاهد وكليات ومدارس تطبيقية ومهنية وفنية، بل وحتى من خلال العمل المباشر كمتدربين حين تسمح ظروف التخصص بذلك. وهي بالتأكيد ستكون أكثر سعادة واقتداراً على تعلم المعارف التطبيقية، وستتمكن من نيل مهن قد تكون أكثر مجزية من مهن العلوم الاجتماعية والإنسانية.

هوّنت على الطالب حنقه، لكنه كرر سؤاله حول النساء والغزل فأجبته: إذا كنت تملك لغتين فليست المسألة استخدام أي منهما، المسألة الأهم هو ألا تغش المرأة أو نفسك بأي لغة.