أخطار ما بعد اغتيال الحريري: يقظة سعودية حاضرة.. وفطنة سورية مغيَّبة

TT

شعرنا ونحن، كوكبة من الكتَّاب والمفكرين والإعلاميين الآتين الى رياض الجنادرية العشرين من كل الديار العربية، نستمع يوم الجمعة 25 فبراير (شباط) الى ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز «أبو المبادرة العربية» و«الأب المرتقَب للمبادرة الاسلامية» ان القيادة السعودية، وبلسان ولي العهد، تضع الإصبع على الجرح العربي ـ الإسلامي النازف وأنها مستحضرة، بكل اليقظة المعروفة عن تعاطيها مع الخطير من مشاكل الأمة، الوضع الراهن في لبنان وكأنما هي تستشعر خطراً داهماً يمكن ان يحدث في حال لم يتم الأخذ سورياً ولبنانياً بالرؤية التي لخصها ولي العهد وبعدما كان اصغى الى مناشدات بعيدة عن «ميكروفونات» الإذاعات والفضائيات بالقول: «يا إخوان، الإسلام الآن والعرب في ضيقة فعلاً ولا احب ان اخوض في هذا الباب لأنه باب متشعب، ولا أحب إلاَّ أن أكون معكم صريحاً لأني لا أحب ان اجرح أحداً، ولكن واجب علينا جمع شمل الإسلام والعرب.. العرب جميعاً مسلمين ومسيحيين وغيرهم».

كأنما كان الأمير عبد الله يوحي بقوله هذا بأن السعودية، التي راعها هول الفاجعة بالإبن اللبناني السعودي رفيق الحريري، وقد استُبيح دمه من دون أن تستوقف الجناة خصوصيته كظاهرة من الصعب تعويض فعاليتها وحضورها وإيجابياتها، تدعو اللبنانيين والسوريين على حد سواء مسلمين ومسيحيين بشتى الأطياف المذهبية الى أن يتقوا الله ويتنبهوا الى ما قد يحدث في ضوء الذي حدث. وعندما يقول ولي العهد «إنني لا أحب ان اجرح أحداً» فلكي لا تتعقد الامور اكثر مما هي معقدة بين شقيقين باتا طرفين وتحوَّلا بسبب تغييب الفطنة من ساحة الحوار الهادئ الذي يهدي الى سواء سبيليهما، او السبيل الخاص بكل منهما، الى ساحة المنازلة الكلامية الحادة والتعامل غير المتوازن على الصعيد السياسي.

ومن مظاهر تغييب الفطنة لدى الطرف المستهدَف اميركياً وفرنسياً.. ودولياً الى حد كبير، أي الحكم السوري، هذا الاسترخاء في التحرك السياسي المقنِع وكأنما الامور بخير. كما ان من مظاهر تغييب الفطنة عدم استباق التصعيد الدولي والتعويل على مهمة متأخرة الحدوث اصلاً قام بها الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى.

ومع تقديرنا للخطوة التي قام بها الأمين العام للجامعة العربية والمتمثلة بمبادرته الى زيارة دمشق والإجتماع بالرئيس بشار الاسد، فان الأمر كان وما زال يستدعي ما هو اكثر فعالية لمعالجة الازمة اللبنانية ـ السورية ذلك ان هذه الازمة هي بين شريحة عريضة من الشعب اللبناني وبين الحكم السوري.. أو على وجه الدقة شريحة من هذا الحكم. وفي هذه الحال فإن المسعى التقليدي الذي يستهدف التهدئة لا يُحقق النتيجة المرجوة.

لقد اعتاد عمرو موسى على ازمات تحدث بين الحكومات العربية ومن اجل ذلك فإن المسعى يبقى في حدود اهل النظام بحيث ان زيارة يقوم بها الأمين العام ويجري خلالها محادثات مع طرفين متخاصمين قد تنتهي بتحقيق تهدئة او استئناف لصفاء القلوب، او ربما لا تنتهي الى الأمل المنشود او النتيجة المرجوة لكنها تُبقي الازمة عالقة من دون حملات إعلامية متبادَلة وهذا امر جيد في دنيا الازمات.

لكن الازمة اللبنانية ـ السورية مختلفة كونها حاصلة من قَبْل حدوث الفاجعة الحريرية، ثم جاءت الفاجعة لتنقلها من حيِّز المعارضة المسيحية الجزئية المعلَنة مضافة اليها بعد ذلك المعارضة الدرزية الجنبلاطية المعلَنة عقب محاولة تصفية النائب مروان حمادة إلى حيِّز المعارضة الشاملة، او على وجه التحديد لتجعل كفة المعارضة لسورية في ميزان المجتمع اللبناني تعلو على كفة الاطياف الاخرى التي تنظر بعين التفهم للسلوك السوري بشقيه السياسي والأمني وإلى درجة انها تغفر ما يصعب غفرانه من هذا السلوك. وهكذا فإن الأزمة باتت بين شريحة عريضة من الشعب في لبنان والحكم السوري ومن دون ان يفيد اهل الحكم اللبناني الحليف لزميله الحكم السوري في تهدئة الخواطر.. هذا اذا لم نقل ان بعض اركان الحكم اللبناني اضافوا في تبريراتهم وتنظيراتهم الحطب على نار اشتعلت بدل ان يمارسوا مهمة محاصرة اللهب.

وبطبيعة الحال فإن المسألة عندما تصبح على هذا النحو لا يعود يفيد فيها السعي التقليدي من نوع السعي الذي قام به عمرو موسى سواء جاء سعيه هذا بمبادرة منه او بإيحاء من الرئيس حسني مبارك الذي ربما آثر الابتعاد شخصياً لأن الازمة ليست بين نظامين وإنما هي بين شريحة عريضة من الشعب في لبنان وبين الحكمين الحليفين اللبناني والسوري.

اما ما الذي يمكن ان يفيد وما كان من المحتمل جداً ان يفيد ولم يحدث قبل الفاجعة فعبارة عن خطوات ومبادرات نوعية. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنه لو نظر الحكم السوري الى الازمة التي كانت على طريق الاستفحال قبل الفاجعة الحريرية ولم يتعامل معها على نحو تعامُل الادارة البوشية مع اهل السلطة الوطنية الفلسطينية لكان ربما احتوى قدر الامكان الازمة. إلاَّ انه بإيفاده وليد المعلم، مع تقديرنا لبراعة هذا الاخير في الاستقصاء والتفاوض، بدا كمن يبعث بزجاجة مياه قد تروي ظمأ عطشان، إلاَّ انها لا تطفىء حريقاً بدأ اشتعاله يتسع. ومن المؤكد لو ان الرئيس بشَّار فاجأ اللبنانيين بوصوله الى بيروت وعقده مع الرئيس اميل لحود اجتماعاً في السراي الحكومي يشارك فيه الجميع من دون «فيتو» على هذا او على ذاك ونوقشت الامور بكل صراحة ثم صدر عنها بيان لا يُغفل شيئاً لما كان للاحتقان ان يستمر على نحو استمراره في ضوء زيارة وليد المعلم. ونقول ذلك على اساس ان المسألة ليست ازمة دبلوماسية او أنها خلاف على امور تفصيلية وانما هي مسألة مصير صيغة وعلاقة يدرك الرئيس بشّار عمق تعقيداتها ولا يحتاج الى من يذهب لكي يستقصي طبيعتها. وفي تقديرنا ان انزال التعاطي مع المسألة الخطيرة من القمة الى السفح اي من المستوى الرئاسي الى مستوى نائب وزير خارجية زادها خطورة وجعل نسبة الاحتقان شبيهة بفيضان الأنهر عندما يتجاوز منسوب المياه الحد الاستثنائي.

وما لم يحدث مع الأسف قبل الفاجعة الحريرية حدث ما هو اشد استغراباً بعد الفاجعة. فلا الدولة السورية اعلنت الحداد مع ان من شأن هذا الاعلان قطع الطريق على افتراضات وظنون كثيرة. ولا هي ارسلت وفداً عالي المستوى يقدم العزاء. ولا هي اوحت الى السوريين بأن يتوجهوا الى بيروت للمشاركة في التشييع او على الاقل يكون هنالك تشييع رمزي في دمشق وغيرها من المدن السورية للرجل الذي كان دائماً في صف الحفاظ على الشعرة التي يجب ألاَّ تنقطع مهما كلَّف الامر بين سورية ولبنان. وهذا السلوك من جانب الحكم السوري وخلو وسائل الإعلام من صحف واذاعات وتلفزيون من مشاعر تتسم بالدفء فضلاً عن الايعاز الى الالوف من السوريين العاملين في لبنان بالعودة الى سورية، تركت المجال امام احتمالين: إما ان الاخوان السوريين بريئون مما جرى لشقيقهم يوسف وان الذئب هو الذي اكله تفجيراً رهيباً وليسوا هم الذين رموه في الجب بعد قتله، وانهم رداً على هذه الهتافات والمواقف اللبنانية التي تتسم بعض مفرداتها بالتجريح قرروا اعتبار ما جرى شأناً داخلياً لبنانياً مئة بالمئة على ان يقوموا بعد انحسار عاصفة الغضب بتأدية واجبات العزاء وعلى افضل ما تكون عليه التأدية، وإما ان هنالك اجهزة افتعلت شراً بالحريري ومن دون ان تكون قمة الحكم على دراية بالأمر وفي هذه الحال فإن الرئيس بشّار انهمك في معالجة الذيول وبصمت الى جانب التأهب لمواجهة الحملة الدولية التي اتسع نطاقها وكما لم يحدث من قبل. وفي اي حال جاء السلوك الرسمي السوري قبل الفاجعة الحريرية وبعدها يثير الاستغراب بسبب تغييب الفطنة وإلى درجة الظن بأن الرئيس بشَّار نفسه كان مستهدَفاً الى جانب الرئيس الحريري مع فارق ان استهداف بشَّار كان بغرض إضعاف قدراته وشأنه وكبح نزوعه نحو المباشرة بتصحيح جذري للامور فيما استهداف الحريري جرى لإنهاء حياته وامبراطوريته المالية وبرنامجه العمراني وعلى الطريقة التي تم فيها من قبل استهداف باسل الأسد شقيق الرئيس السوري في حادثة سيارة على طريق مطار دمشق تعددت فيها الاحتمالات... إلاَّ انها كانت هي الاخرى مروعة كما الفاجعة الحريرية.

يبقى القول ان الذي كان يجب ألاَّ يحدث حدث ومن دون الأخذ في الاعتبار أن رفيق الحريري ليس فقط خطاً سعودياً احمر إنما هو خط عربي ـ دولي. وهكذا ظاهرة تتطلب من الجميع وبالذات من السوري واللبناني التعاون لإبعاد الأذى عنها. واذا كانت لم تحدث مبادرة عربية حتى الآن فلأن اهل القرار العربي الفاعل ما زالوا في حالة هي اكثر من العتب واقل من الغضب، فضلاً عن التريث لمعرفة ما الذي سيُفضي اليه التحقيق الدولي في الفاجعة الحريرية وهو تحقيق جاء متأخراً. لكن الحالة التي نشير اليها تتقدم على نحو ما قرأناه بين سطور كلام الأمير عبد الله للمشاركين في الجنادرية العشرين وما استنتجناه من كلام سمعناه في الرياض في مجالس الذين إذا هم حللوا الحدث أصابوا وإذا هم قالوا الرأي يحرصون مثل ولي العهد على ألاَّ يجرحوا أحداً... وبالذات أولئك الذين من حق المملكة عليهم التذكر بأنه لولا اتفاق الطائف لكانت الحال أسوأ مما هي عليه الآن واكثر سوءاً في حال استمرت المنازلة قائمة، وبقيت الفطنة السورية على التغييب التي هي عليه.