قائد «أبدي» وخليفته «محبوب» .. حكاية أصنام كوريا الشمالية مع الدمية النووية

TT

عندما خُسفت الأرض بصدام المصدوم، كان حزن (كيم يونج) كبيرا. فقد اختفى خمسين يوماً عن الأنظار، ثم ظهر على الناس ليقول: إذا كانت أمريكا تظن أننا سوف نتخلى عن أسلحتنا فخطؤها كبير.

وعادة الاختفاء هذه، قام بها من قبل آلهة الإنكا، أو بتعبير الفيلسوف البليهي «هالة الغموض وسحر الغياب». وفي علم النفس التحليلي يقول سكينر في كتابه «ما خلف الحرية والكرامة» إن هناك «علاقة عكسية بين مقدار التقدير ووضوح الأسباب». وأن مقدار ثنائنا على شخص يدير جهازا معقدا هي من غموض العملية أمامنا، فإذا عرفنا سرها تبخرت هالة الشخص.

ويشرح روبرت غرين في كتابه «شطرنج القوة» أن علم الدجل يقوم على خمس درجات: ابق الأمر غامضا ـ ركز على البصري والحسي أكثر من الفكري ـ اقتبس طقوس الدين ـ موه مصادر دخلك ـ وأما الخطوة الخامسة فأقم حركية «نحن» ضد «هم». وهو ما اعتمده الطاغية الكوري: دمروا الإمبريالية الأمريكية.

وتحت طائلة هذا القانون اختفى الرجل مع حداد والده ليس ثلاثة أيام، بل ثلاث سنوات. ثم خرج على الناس، فقال: إن التاريخ رحم ينجب العباقرة مرة واحدة. ثم قام بحركة مسرحية فاستغنى عن منصب الرئاسة، وقال هناك قائد واحد «أبدي» هو أبي كيم سونج، واتخذ لنفسه اسماً متواضعاً «القائد المحبوب»!

أما العصابة من حوله فقد سمته الرمز والأمل، والمخلص، وهدية السماء إلى الشعب الكوري، والمهندس الأعظم في كل الأزمنة، والمخرج السينمائي الذي لن يلحقه فنان، والموسيقى الموهوب الأمهر بين كل نوابغ الموسيقى، وأن ملكه لا ينبغي لأحد من بعده.

وقريبا من بيونج يانج العاصمة، أقيم متحف فيه 200 غرفة بأشد إضاءة ممكنة لبلد يحتاج شمعة، وداخل المتحف صور تعظيم الأب (القائد) والابن (المحبوب) بـ49808 قطعة مهداة من 170 دولة مثل بارودة صيد من بوتين، وشماغ من ياسر عرفات، وحقيبة من جلد تمساح من كاسترو، أو دب اصطاده تشاوسسكو بنفسه وحفظه محنطا فأهداه للرفاق، وأما خارج العاصمة، حيث يرتفع تمثال الأب بأعلى من ناطحة سحاب، فلا شيء يعمل، والشيء الوحيد المتماسك هو الجيش والمخابرات، والشيء الوحيد الذي يصدرونه هو تقنية الصواريخ، وفي هذا قاموا بتبادل فني مع باكستان فأعطوهم الصواريخ، وأخذوا منهم التقنية النووية، على يد روبن هود العصر النووي العالم الباكستاني عبد القادر خان، الذي زاد مشاكل العالم مشكلة، وأدخل الشرق الأقصى رحلة سباق تسلح.

وقصة الطاغية في كوريا، الذي يلوح حاليا بالدمية النووية ترجع إلى عهد ستالين، فقد نصب الشيوعيون والده كيم سونج الثاني على كوريا الشمالية عام 1948 الذي حكم مثل جنكيزخان لمدة 46 سنة، حتى نفق عام 1994، ثم جعل الحكم الثوري ملكيا!

وكيم يونج يحب النساء السويديات حصرا ذوات السيقان الطويلة، وتحت تصرفه سيارة مرسيدس بقيمة عشرين مليون دولار، وينطلق في شوارع بيونج يانج مع مسدس يتسلى به في إصابات أنوار أعمدة الكهرباء، وأكثر ولعه بأفلام الرعب وجيمس بوند، وفي مكتبته 20 ألف فيلم غربي، وحينما أعجبته الممثلة شوي اون هوي عام 1978 خطفها من هونج كونج، ثم ألحق بها المخرج شين سانج أوك حتى تمكن الاثنان من الفرار لاحقاً من جمهورية الجوع.

وفي سجل «القائد المحبوب» أنه قتل عام 1974 زوجة رئيس كوريا الجنوبية بارك شونج هي ـ كما في قصة قتل الحريري في لبنان ـ وأكملها بقتل حفنة من الوزراء (الكوريين الجنوبيين) كانوا مجتمعين في رانجون عاصمة بورما عام 1983 ، وثلثَّها بقتل 115 بريئا على ظهر طائرة كورية جنوبية، كما في قصص قتل الزعيم الدرزي كمال جنبلاط والرئيس رينيه معوض والمفتي حسن خالد والصحافي سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة «الحوادث»، الذي جاء إلى جنازة أمه في بيروت، فلحق بها بعد أن كسرت المخابرات أصابعه التي بها يكتب، وهو مصير كاد أن يلحقني حينما ذهبت لجنازة والدتي في بلد عربي، وما نجاني كان جواز سفري الكندي. فلا أمان في غابة العروبة لقط أو طير.

والمشكلة عند (القائد المحبوب)، التي ليس لها حل إلا بجراحة «إليزاروف» في طوله 160 سنتمترا، ولذا فهو ينوع أشكال روافع الحذاء بأكثر من أحذية النساء من دون فائدة، ويستعين عن قصر القامة بلبس بدلة طويلة؟ ويحكم البلد مثل مافيات المخدرات; فيتاجر بكل شيء بما في ذلك تزوير الدولار، فليس من مهنة قذرة ولو كانت قاذورة.

ويبدو أن الطغاة العرب ليسوا النموذج المتفرد في العالم، فهناك ما يعزيهم ويغريهم من بقايا جيوب ستالينية في بورما وكوريا الشمالية وكوبا كي يعلنوا البيعة الأبدية لأنفسهم وتكرار الانتخابات المزورة، مثل حبات المسبحة في ثلاثة وثلاثين انتخابا.

وهذه الأيام تحتشد كل طاقة كوريا الشمالية من أجل حدث جلل، هو الاحتفال بمولد كيم يونج الثالث بعد الستين (63)، وجاءت التعليمات خاصة للنساء، ألا يزيد طول شعر الواحدة منهن عن سبعة سنتمترات. وقبل هذا، في مطلع فبراير الماضي، أعلن القائد (المحبوب) أن كوريا الشمالية أصبحت دولة عظمى فقد امتلكت السلاح النووي (؟)، وهو صنم لا يضر. أو بتعبير فؤاد زكريا في كتابه «خطاب إلى العقل العربي»، إنها أسلحة مميتة ليست للاستخدام، ولكن لماذا ينتجونها؟

والدول المعروفة حتى اليوم بامتلاكها السلاح النووي ثمانية، وهي تملك ما تدمر به الكرة الأرضية، وتفني البشر عدة مرات. وإفناء البشر مرة واحدة كاف. وتنضم كوريا الشمالية الآن إلى نادي الأشرار النووي ببضع قنابل قابلة للزيادة، بعد أن أعلنت انسحابها من اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية. ثم لوحت بصاروخ (رودونج ـ1) طار فوق رؤوس اليابانيين يئز أزا.

وعدوات حكام كوريا الشمالية مع اليابانيين قديمة وشديدة. وكيم سونج الوالد قاد حرب التحرير في الحرب العالمية الثانية ضد اليابانيين تحت تدريب وأموال وتوجيه ستالين، حيث ولد هناك كيم يونج في معسكر روسي للتدريب في منطقة نائية في (شاباروفسك) ثم فقد والدته عام 1949 ليصبح تحت وصية زوجة والده (آي)، وكلمة (آي) هي للتعبير عن الوجع في اللغة العربية، وكذلك كانت له عدوا وحزنا، فقد حاولت أن تدفع بابنها لتسلم العرش بعد موت سونج الثاني، ولكن كيم يونج استطاع عام 1974 بشراسة ودهاء أن ينتزع العرش لنفسه، ثم يتولى قيادة المخابرات، ومن حكم المخابرات في عالم المافيات الاشتراكي حكم البلد، كما هو الحال في جمهوريات الخوف والبطالة عند العربان. وقبل ذلك بسنتين، عام 1972، قام بحذف تعريف كلمة «الحكم الوراثي» في القاموس الكوري الذي نص على أنه «نظام رجعي نهاب» فكسب القاموس كلمة وخسر الواقع حقيقة.

وغلطة أمريكا مع بقايا الطغاة في العالم أنها بدأت في الحلقة الضعيفة من السلسلة، إذ بدأت بصدام وتريد الآن إيران. والأهم حسب رأي الكاتب الأمريكي بوب وودورد في كتابه المعنون «خطة الهجوم»، كان التخلص من أخطر الديكتاتوريين في كوريا الشمالية. وأمريكا تعلم علم اليقين رحلته في الوصول إلى السلاح النووي، من خلال عملاء ألمان حاولوا توصيل تقنية فصل غازات اليورانيوم إلى معمر القذافي، ولكن الأخير فتح بلده للتفتيش خوفاً من أمريكا وحافظ على نظامه، مؤقتا.

والديكتاتور الكوري القصير، كما هو الحال مع ملالي إيران، يظنون أن السلاح النووي يقي الدول الاستبدادية من السقوط ولو عمرت على الظلم وأشلاء المعذبين. ولكن انهيار الدول يأتي من الداخل. وعندما انهارت دولة أشور لم ينقصها عتاد أو تقنية. والاتحاد السوفيتي انهار من دون هجوم خارجي، وهو يملك أسلحة تدمر الكون مرات، وكان أقوى من كوريا بعشرة آلاف مرة.

مشكلة الطغاة في كل مكان واحدة. وقد سئل القذافي عن معنى الديموقراطية فقال إن أصلها عربي، (ديموكراسي) أي: الديمومة على الكراسي.

[email protected]