السم الهاري في الفن

TT

الملل هو السم الهاري لأي عمل فني، ولكل شيء. إنه مثل سوس الخشب ينخر البناء ويجعله «بودرة» ما أن تلمس هيكله حتى يفترش الارض متهالكا تقول: والله كان هذا الحطام صندوقا فنيا رائع الصنعة والجمال، أو كان مقعدا مريحا، أو تحفة لا تعوض، قل ما تريد، خلاص، انتهى، دخلت فيه سوسة النخر، فلا حل هناك سوى ان تتخلص منه حتى لا ينتشر الوباء. وقد قال لي خبير في محاولة إبادة سوس الخشب، إن هذا السوس لا يأكل الخشب الرخيص، إنه يستحلي أغلى الأنواع من الزان والارو والعزيزي ...الخ.

أقول هذا الكلام بمناسبة مشاهدتي لبعض الأعمال الدرامية التي تحاول أن تعبر عن واقعنا المحتدم ، وصرت أجدها أبرد كثيرا من نشرات الأخبار المصورة التي تشتعل سخونتها كل دقيقة بـ«نبأ عاجل» يقصم الظهر حقا، ليس بسبب وجع الظهر الناشئ من ملل الجلوس ساعات امام عمل درامي يصرخ ويبكي وينوح، بل من وجع مواجهة الهوان الحي وألم الجزع من قلة الحيلة. إن الفن، بمجمله، يصير في مأزق شديد أمام الأزمنة المتصاعد فيها لهب الأجساد المشوية والقلوب المكوية، وأتربة القري التي إنقلب عاليها سافلها، لذلك كان من الضروري دائما أن يهرب صناع الفن إلى الترفيه والتسلية، وإن لم يخلوا من العصبية والتوتر، أو أن ينغمسوا ميدانيا في أتون النيران، كما فعل معظم أذكياء الكتاب والأدباء، وأهل الفنون جميعها الأوروبيون، وغيرهم، إبان اشتعال بلادهم بالحربين العالميتين الأولى والثانية. وكان من المتوقع أن يفرز ذلك الانغماس الحي نتائجه في تعديل صيغ الشكل التعبيري لكي يتفادي وطأة المضمون وثقله علي النفس المجروحة والملسوعة ولحظات هدوئها المتوجعة. لا يمكن أن يقبل المجروح والملسوع والمتوجع فنا يسكب على قروحه المزايدة، ولا يمكن أن يستقبل غير المحتمل فوق واقعه غير المحتمل. الفنان الذي لا يعي كل هذا، فنان فقد بصيرته، واختل إيقاعه، وتسربت رسالته من بين أصابعه. هذه ليست دعوة للتخدير ، وليست مبررات للانزواء بعيدا عن متابعة الأخطار، لكنها استجاشة للابتكار، نداء للبحث عن صياغة لفن يواصل مهمته في الإنقاذ، تلك المهمة التي جعلت الإنسان يسعي نحو توليد ماصرنا نسميه، على مر الأزمان، «الفن». وإنه لمما يدهشني ترديد البعض لمقولات مثل «لا سياسة في الفن ولا فن في السياسة». كأن «السياسة» لقيط مقطوع من شجرة، فلا يجوز، كما يزعمون او يطالبون، خلط السياسة بالدين، ولا بالأدب، ولا الحياة. ما هي إذن «السياسة»؟ أليست هي الأحداث الجارية من حولنا، نلمسها ونشمها ونسمعها وتقرر مصائرنا؟ تهدم البيوت على رؤوس أهلها، أو تمد يد الإنقاذ للغرقي؟ الدين/ العقيدة، والأدب، والفن، والثقافة، هي قادة «السياسة» الحقيقيين، لا يمكن أن تصح دعوي «مالنا ومال السياسة»، لا يمكن، إنها مالنا وما علينا، الذي لا نرجوه هو: التسطيح، والتبسيط، والاستسهال، والتسلية على المواجع، الذي لا نرجوه هو تحصيل الحاصل في ثرثرات طويلة منهكة تمتد آمادا وأمتارا من العذاب اللانهائي منتحلة صفة «الفن». والسائد، للأسف، أن الناس، خاصة المتبدئين في تذوق الفن، يخشون الطعن فيما يشاهدونه، علي المسرح مثلا، وإن أصابهم بالملل القاتل حتى وجع الظهر وكتم التنفس. لا بد من فن له القدرة على استخراج الطريف من المؤلم، والمؤلم من المضحك المبكي. قدرة المزاح الجاد الذي يجعل الفن يؤدي دوره، من دون أن يدمي القلب الغارق في لجج الدم والمذابح.