المثقف.. أصل وصورة!!

TT

نجاح أي كاتب مرهون بقائمة بريده، وكلما زاد عدد قرائه، اعتبر دليلا على مهارته في التلاحم مع قضايا أمته، والاحساس بهموم مجتمعه، لهذا لم أهمل يوما رسالة قارئ رغم تأخري في الرد أحياناً لضيق وقتي. وتفاجئني بين فترة وأخرى رسالة من قارئ كريم، معبأة بالهجوم على شخصي، واتهامي جورا بتجاهله، وانني اترفع في الرد عليه. هذه النوعية من الرسائل توجعني، لأن القارئ له حق مباح عند كاتبه المفضل. وهناك شريحة أخرى، من الصحافيين والكتاب والقراء المغاربة، تصلني رسائلهم من حين لآخر عبر بريدي الإلكتروني، هذه الرسائل تسعدني كوني أؤمن بأهمية التواصل الثقافي، والتبادل المعرفي بين أبناء عروبتي. وقد استرعت انتباهي منذ فترة وجيزة، رسالة من أحد الصحافيين الشباب من دولة المغرب، معبرا عن سخطه من بعض الكُتّاب، الذين يتشدقون بالمبادئ والقيم، وهم بعيدون في واقع الأمر عن هموم الناس، وعن معاناة الشباب، رغم إعلانهم ليلا ونهارا عبر القنوات الاعلامية المختلفة، بضرورة دعم المواهب الشابة، والأخذ بيدها، وتوجيهها الاتجاه الصحيح، لتطرح ثمارها مستقبلاً. لست هنا في موقع المدافع المستميت عن كافة الكُتّاب والأدباء لإدراكي ان دهاليز الصحافة، ومنابر الأدب، تحوي الكثير من المتناقضات، وبين جدرانها تقع العديد من القصص والحكايات التي تنفع تفاصيلها في كتابة مئات الروايات، وفصول من المسرحيات، وأن هناك بالفعل زمرة من الادعياء، مرصوصين في قوائم المثقفين، لكنهم في دواخلهم انتهازيون أفاقون، يمارسون أفعالا تناقض ما يطرحونه على صفحات الجرائد، وما يسطرونه بين طيات الكتب، معترفة انني في بداياتي الصحافية، اصطدمت بكُتَّاب من هذه النوعية، كانوا موضوعين في مرتبة عالية في فكري، واكتشفت ان كل شيء في أعرافهم له ثمن وحسابات خاصة!! وأصبحوا بعد مواقفهم المزدوجة في أدنى موقع عندي، مع هذا لم تتغير قناعاتي بأن هناك نخلات باسقات تظل وارفة الظلال، مهما اكتوت من لظى الأيام! هناك حقيقة غائبة عن الكثير من الناس، ان العديد من دول العالم الثالث، تضيق في أرجائها مساحة الحريات، لذا يشعر المثقف النزيه أنه يحمل روحه على كفه كما يقولون، فهو مهدد بقطع لسانه، وقصف قلمه مما يجعله يسير متلفتا جزعا، وإن استلقى على فراشه، ظلت عيناه متسعتين عن آخرهما، هلعاً من أن يستيقظ فجرا على دقات عنيفة على بابه، وزوار غلاظ يأخذونه من الدار إلى النار! في الدول المتحضرة يتعرض الكتاب والأدباء الذين يتجاوزون الخطوط الحمراء في بلادهم، الى المحاكمة والغرامة، خاصة أصحاب الكتابات التي تتعرض سلبا لتاريخ اليهود، كما حصل مع المفكر الفرنسي روجيه جارودي، حين اتهم بمعاداته للسامية، بعداً ان شكك في ضحايا المحرقة «الهولوكوست» ابان العصر النازي، من خلال كتابه «الأساطير المؤسسة للصهيونية». الأمر يأخذ بعدا أشد عنفا في بعض دول العالم الثالث، حيث يتم رمي أصحاب المواقف الثابتة من المثقفين في غياهب السجون حتى يتراجعوا عن مواقفهم، وقد يتعرضون للتعذيب الذي يصل الى القتل في بعض الأحيان، ويكون محظوظا من يستطيع الافلات بجلده الى أرض يتنفس فيها بحرية، وينعم بالعدالة الاجتماعية التي يفقدها في بلاده.

هناك مئات من المثقفين العراقيين أضحوا اليوم يعيشون في المنافي هربا من بطش السلطة في بلادهم، وحماية لأسرهم من الضياع والتشرد، ومات بعضهم في أرض الغربة، وهم يحلمون بالعودة إلى وطنهم. ومنذ فترة قريبة بعد عدة عقود، أعادت تركيا الاعتبار لشاعرها ناظم حكمت، الذي مات في منفاه بالاتحاد السوفيتي سابقا، وقال في وصيته «ادفنوني تحت ظل شجرة صفصاف وارفة الظلال في إحدى مقابر قرى الاناضول». من أمثال هؤلاء الشرفاء يوجد كثيرون قدموا أرواحهم فداء لمبادئ آمنوا بها، ومن أجل حياة أفضل.

لكن على النقيض، هناك فئة أعطت ضميرها إجازة طويلة، وأراحت عقلها، وتحولت إلى أبواق للسلطة، تهلل ليلا ونهارا على قراراتها، وتطبطب على نهجها، حتى لو كانت تعسفية! هذا لا يعني ان كل من اقترب من السلطة لا بد ان يكون متملقاً، والشرط الأساسي كما يرى الناقد رجاء النقاش للاقتراب من السلطة ان يكون المثقف مخلصا شريفا صاحب أفكار وطنية وانسانية، يود تحقيقها في مجتمعه، وقد قام بهذا الدور العديد من المثقفين العرب، أمثال الأديب عباس محمود العقاد، الذي كانت تربطه صلة قوية بحكومة الوفد في مصر.

وهناك فئة لم تستطع مقاومة تيار الاغراءات المحيطة بها، وغرقت في لجج مطالبها الحياتية، كون الكتابة في العالم العربي، لا يجني صاحبها ثروة من ورائها، وبالتالي لا توفر لأهله حياة كريمة كذلك الكاتب والأديب الصادق يتطلع دوما لمجتمع مثالي، يود لو يراه واقعا أمامه، لكنه قليل الحيلة، مقيد القدمين واليدين، بجانب إدراكه ان ذاكرة قومه ضعيفة، سرعان ما تنسى تضحيات أبطالها! ولو تتبعنا تاريخ الأدباء والكتاب العظام في العالم، سنجد أن تصرفاتهم فيها شيء من الغرابة، وان العديد منهم فشل في اقامة جسور من الود والتفاهم بين أقرب الناس اليه. فالمفكر الفرنسي جان جاك روسو، الذي شغل الدنيا بنظرياته في العقد الاجتماعي، رفض الاعتراف بأبوته لأطفاله غير الشرعيين، وتركهم يتربون في الملاجئ. والأديبة الذائعة الصيت جورج صاند، كانت امرأة تعيش حياتها طولا وعرضا، ضاربة عرض الحائط بالتقاليد المحافظة التي كانت سائدة في عصرها.

وفي عالمنا العربي هناك الكثير من الأمثلة لأدباء عاشوا حياة تناقض ما خلفوه من نتاج أدبي، لكننا في عالمنا العربي نسدل الستار على حيوات المشهورين، لأن قانون التستر على العيوب، يظل المعيار المهيمن داخل المجتمعات، حتى لو كان فيه استخفاف بحقوق الأفراد، مما يلقي ظلالا هلامية على شخصياتها البارزة.

مع هذا هناك أسماء حفظ لنا التاريخ سيرهم البائسة، من العصر الجاهلي، ومن العصور الاسلامية التي تعاقبت على مدار التاريخ الى العصر الحديث. هذه العواصف الهوجاء التي يمر بها الكُتَّاب والأدباء من الجنسين تجعلهم يقفون في مفترق طرق، منهم من تنزلق قدماه وينحدر الى الهاوية، وينغمس في أوحال الرذيلة أيا كان نوعها، كونه يملك إرادة هشة، وشخصية مهزوزة لا تحتمل المزايدات، ومنهم من يملك إرادة صلبة وشخصية قوية يقاوم بها أعاصير الحياة، ويظل صامدا حتى يصل إلى مراده، متسلحا بثقافته المتينة الجذور.

إن الأقلام البارزة على الساحة الثقافية، أصحابها ليسوا ملائكة تمشي على الأرض، وإنما هم بشر يخطئون ويصيبون، والكلمة الفصل في النهاية تعود للقارئ الواعي الذي يدرك ابعاد الاشياء، ويستشف الحقيقة الغائبة من بين السطور المعلنة.