أنا وأم الدنيا وأولاد أم الدنيا

TT

ما انتهيت من نشر قفشاتي عن سائق التكسي في القاهرة حتى تسلمت ادارة هذه الجريدة رسالة (ايميل) مستعجلة من المهندس السيد ايهاب محمد الزيني يعترض فيها بأشد العبارات عما قلت. الواقع ان الزميل عبد الله قبيع حذرني وقال يا خالد هذه مقالة ستثير عليك المصريين. ننشرها على مسؤوليتك. قلت له يا عزيزي انا اجالس المصريين باستمرار وأسمعهم يقولون ما هو ألذع من ذلك من نكات وقفشات وتعليقات عن احوال بلدهم. قال: هذا شيء وهذا شيء. انهم يقولون اعنف ما يقولون عن بلدهم ولكنهم يزعلون ويثورون عندما يقول ذلك غيرهم من الأجانب.

قلت له ولكنني لا اعتبر نفسي من الأجانب عن مصر. اذا كان الموضوع موضوع جنسية فجنسيتي بريطانية ولكنني لا اعتبر نفسي انكليزياً. اذا كانت مسألة ولادة فأنا مولود في العراق ولكن العراق حكومة وشعباً غاضب علي. البلد العربي الذي أرتاح فيه وأستمتع بعشرة أهله هو مصر. هذا ما يجعلني أسافر اليه باستمرار واعتبر نفسي واحداً من أبنائه وليس أجنبياً عنه. وهذا ما يؤهلني للتنكيت فيه أو عليه كأي واحد من ابنائه. كثيراً ما سألوني ما سر هذا الهوى بمصر والمصريين؟

اعتقد انها مسألة مزاج. فأنا اميل الى التسامح والسماحة واللاعنف والسلامية، وهذه كلها صفات مصرية. يجمعني بهم ايضاً حب النكتة الفكاهة وأدين لهم بالكثير في أسلوبي الساخر. فمصادر وحيي الأولى كانت روز اليوسف والبعكوكة ومجلة الاثنين. ومعلمي الأول كان الشيخ البشري. كل العرب مدينون لمصر بشيء ما. وانا مدين لها بروح الفكاهة والسخرية.

الشيء الآخر هو ان مصر بلد حضارة. هناك دائماً شيء استطيع ان اراه أو أسمعه في القاهرة. لا أشعر بأنني اضيع وقتي فيها وأتوق للعودة الى لندن.

لهذا أشعر بانزعاج كبير عندما أرى ابناءها يثورون علي لمجرد مزحة صغيرة. أقول لنفسي أين ذهبت روحكم الخالدة؟ روح التنكيت المصرية التي تمتد الى عهود الفراعنة؟ لا داعي لهذه الحساسية والنرفزة والبرانويا. مصر أم الدنيا وبحق انها البلد العربي الوحيد الذي أنجب اثنين نالا جائزة نوبل في العلم والأدب. كل نهضتنا الحديثة تعود خيوطها لأيام محمد علي الكبير. كل موسيقانا المعاصرة تعود لسيد درويش وعبد الوهاب والسنباطي والقصبجي. قلما يوجد متعلم عربي لم يتتلمذ على أستاذ مصري. وكل الحركات الفكرية والسياسية ترجع في اصولها الى القاهرة. لا شيء يحدث بعالمنا بدون دور لمصر.

ما يزعجني اكثر هو دأب المثقفين العرب على توجيه اعتراضاتهم الى رئيس التحرير ولومه على السماح بالمادة وتحريضه ضد كاتبها، بدلاً من توجيه رد للنشر او معاتبة الكاتب مباشرة. انه المثقف العربي. أفرك جلده فتجد دكتاتورا تحته، عازم ابداً لا على قمع رأي زميله فقط، بل وقطع رزقه ايضاً. بارك الله بالرقيب بالنسبة لما يفعله المثقفون. لقد نجحنا الى حد ما في اقناع السلطات والمسؤولين بأهمية الشفافية وحرية الفكر. الآن عندنا هذه المعركة، وهي ان نقنع المثقفين والمفكرين بأهمية حرية الفكر والشفافية.