البيعة.. مشروطة بالمنهج

TT

هذا بسط للقول في البيعة، بعد التركيز الموجز عليها في مقال الاسبوع الماضي.

وإنما كان البسط في بيعة أبي بكر من حيث أنها أول بيعة في الاسلام بعد انتقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الى الرفيق الأعلى.

إن البيعة عزيمة ماضية.

ولو كانت البيعة أمرا يمكن تجاوزه، ولو رخص في الاستثناء لأحد، لكان أبو بكر أولى من كل أحد بهذه الرخصة.

لماذا؟

لأن هناك مجموعة مستفيضة من القرائن تدل على فضله وسابقته وأهليته.

ومن هذه القرائن:

أ ـ أنه اول من أسلم من الرجال الكبار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ان الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله».. ومن ذلك أنه بينما رسول الله يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخد بمنكب رسول الله ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخد بمنكبه ودفع عن رسول الله وقال: «أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم».

ب ـ حين أخبر النبي قومه بأنه قد أسرى وعرج به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الى سورة المنتهى، ملأ المشركون الأرض لغطا وإرجافا وتكذيبا. هنالك قال أبو بكر للمشركين: لئن قال ذلك لقد صدق.. قالوا: أو تصدقه انه ذهب الليلة الى بيت المقدس وجاء قبل ان يصبح؟. قال أبو بكر: نعم. إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك. اصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة.. ولذلك سمي أبو بكر بـ(الصديق).

ج ـ اختيار النبي لأبي بكر ليصحبه في هجرته الى المدينة. وكان أبو بكر ثاني اثنين في الغار: الرسول وهو، وقد نزل في ذلك قرآن: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا».

د ـ أتت امرأة الى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها ان ترجع اليه، فقالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ (كأنها تريد الموت). قال: إن لم تجديني فأت أبا بكر».

هـ ـ حين مرض النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس».

هذه ـ ونظائرها ـ قرائن تدل على فضل ابي بكر وسابقته وأهليته.. ولو كان هناك تجاوز للبيعة، أو ترخص فيها، أو استثناء منها، لكانت تلك القرائن هي مستند التجاوز، او الرخصة، أو الاستثناء.

ولكن لما كانت البيعة عزيمة ماضية، وقاعدة اساس للحكم الاسلامي: اقتضى ذلك مبايعة ابي بكر في سقيفة بني ساعدة.. وقد حصلت المبايعة قبل ان يدفن النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك لئلا يحدث في الدولة (فراغ دستوري) وفق المصطلح او التعبير المعاصر.

في مقال الاسبوع الماضي ثبت ان البيعة انعقدت لأبي بكر ـ بادئ ذي بدء ـ في سقيفة بني ساعدة، حيث ابتدأ عمر البيعة ـ ولا بد لكل أمر من بداية ومبتدئ كما يقول ابن تيمية ـ ثم انثال المهاجرون والأنصار يبايعون أبا بكر في السقيفة عن اختيار ورضى.

ثم كانت البيعة العامة في المسجد.

فعن أنس بن مالك قال: بويع أبو بكر في السقيفة.. وكان الغد. فجلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل ابي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أيها الناس... ان الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله، فان اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وان الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة، بعد بيعة السقيفة.

ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو اهله. ثم قال: أما بعد أيها الناس. فاني وليت عليكم ولست بخيركم، فان احسنت فأعينوني، وإن اسأت فقوموني. الصدق أمانة. والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله. والقوي منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله، فانه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم الا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فان عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.

هذه هي البيعة الأولى في الاسلام، بعد بيعة النبي.

وهي بيعة مركبة موثقة: بيعة أولى في سقيفة بني ساعدة.. ثم البيعة العامة الكبرى في المسجد.

وقد رد ابن تيمية قول من يقول: ان البيعة تنعقد باثنين او ثلاثة او اربعة وهو قول فتح الباب للبيعات (البدعية) التي احدثت فتنا كثيرة وعاصفة في تاريخ المسلمين: امس واليوم.

وقال ابن تيمية: «هذه ليست اقوال ائمة السنة.. وابو بكر بايعه المهاجرون والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين بهم صار للاسلام قوة ومنعة، وبهم قُهِر المشركون، وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر. وأما كون عمر او غيره سبق الى البيعة، فلا بد في كل بيعة من سابق. ولو قدر ان عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر إماما بذلك، وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم اهل القدرة والشوكة، ولهذا لم يضر تخلف سعد بن عبادة، لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فان المقصود: حصول القدرة والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الأمة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك».

البيعة مشروطة باقامة المنهج في خطبة ابي بكر ـ بين يدي البيعة العامة ـ جملة موجزة، بيد انها تعبير دقيق عن الالتزام بانفاذ منهج الاسلام.. هذه الجملة هي: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».

إن البيعة في الاسلام ليست (تفويضا) للحاكم بأن يحكم الناس كما يشاء ويهوى. بل هي مشروطة بالمنهج الذي يخضع له الحاكم نفسه. ولننظر ـ مثلا ـ كيف أنفذ أبو بكر المنهج؟.. ولما كانت هذه المساحة لا تتسع لاستقراء ما فعل، فاننا مضطرون الى ضرب امثال فحسب.. يقول ابن كثير ـ في تفسير آية النور ـ : «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم» الآية. يقول: «ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر من بعده خليفته أبو بكر الصديق، فَلَمَّ شعث ما وهى بعد موت النبي، وأخذ جزيرة العرب ومهدها، وبعث جيوش الاسلام الى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد، ففتحوا طرفا منها، وجيشا آخر صحبة ابي عبيدة ومن اتبعه من الأمراء الى ارض الشام، وثالثا صحبة عمرو بن العاص الى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من حوران وما والاها».

وهذا انفاذ للمنهج الذي انتهجه النبي، في اداء البلاغ العالمي. وكان الرسول، بعد ان عاد من حجة الوداع، قد أخذ يجهز جيشا ليبعثه الى البلقاء وفلسطين، وعقد لواء هذا الجيش لأسامة بن زيد. فلما مات الرسول، سارع أبو بكر الى اتمام ما بدأه النبي. إذ نادى منادي أبو بكر، من بعد الغد من متوفى الرسول ـ كما روى الطبري ـ بهذا النداء: «ليُتَمَّ بعث اسامة ألا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج الى عسكره بالجرف». وقام أبو بكر خطيبا في الناس فقال: «يا أيها الناس. إنما أنا مثلكم. وإني لا أدري لعلكم ستكلفونني ما كان رسول الله يطيق. إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات. وإنما أنا متبع ولست بمبتدع.. والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت ان السباع تخطفني لأنفذت بعث اسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته».. والمثل الثالث على التزام أبي بكر بالمنهج هو: ان الناس كانوا يؤدون الزكاة لرسول الله. فلما توفاه الله، نكص بعض الناس وامتنع عن اداء الزكاة، فرأى أبو بكر ان من مقتضيات البيعة على الكتاب والسنة: ان يستمر الناس في اداء الزكاة. فلئن مات الرسول صلى الله عليه وسلم، فان المنهج لم يمت، إذ ان القرآن الذي نطق بالزكاة باق، وان السنة التي فصّلت الزكاة باقية. ولذلك قاتل أبو بكر المرتدين مانعي الزكاة، الذين حاولوا تقويض استقرار الدولة.

نعم.. نعم.. نعم. ان البيعة مشروطة بالمنهج.

وهذا هو (الالزام الدستوري) ـ حسب مفردات الفكر السياسي والدستوري المعاصر ـ.

وما المنهج؟

إنه ـ باختصار شديد ـ :

1 ـ توحيد الله وحده لا شريك. فان الله ما خلق الإنس والجن إلا ليعبدوه. وتوحيد الله هو قوام العبادة وذروتها.. ويدخل في التوحيد: اداء العبادات المفروضة «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين. ألا لله الدين الخالص».

2 ـ إنفاذ شريعة الاسلام: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون».

3 ـ اقامة القضاء العادل الذي به تحفظ الحقوق، وتردع المظالم: «إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما».

4 ـ رعاية مصالح الأمة: «إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».

5 ـ وحدة الجماعة: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا».

6 ـ الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون».

7 ـ إقامة الشورى وإعمالها: «وشاورهم في الأمر».

8 ـ إعداد القوة لردع العدوان عن الديار أو الوطن، أو الاقليم: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».

هذا هو المنهج ـ في إجمال ـ ولا بيعة دون هذا المنهج.

وأيما حاكم زاغ عن هذا المنهج، او اطّرحه، او فضل غيره عليه، فانه لا بيعة له، إذ البيعة مضمون شرعي، ومصطلح إسلامي. وأيما حاكم ثبت على هذا المنهج والتزمه، فإن بيعته واجبة في اي زمان كان، ذلك ان منهج الاسلام يستغرق العصور كلها منذ ان نزل التشريع وكمل، وإلى ان تنتهي قصة الحياة على هذا الكوكب.

وبذا يتضح: ان البيعة (عقد) شرعي، وان مضمون العقد هو (المنهج)، وان العلاقة بين الحاكم والمحكوم ـ في الاسلام ـ ليست علاقة بين حاكم يحكم بهواه وبين رعية تصفق للهوى. إنما العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الاسلام هي علاقة (منهج) يحكم الطرفين، لأن مصدره اعلى من الطرفين، وأعلم وأحكم وأرحم.