بشار الأسد يتعامل مع واشنطن بأسلوب حافظ الأسد

TT

تعامل حافظ الأسد طوال ثلاثين عاماً مع خمسة رؤساء اميركيين بدءاً بريتشارد نيكسون وجيمي كارتر مروراً برونالد ريغان وجورج بوش وانتهاء ببيل كلينتون. باستثناء رونالد ريغان الذي لم يجتمع به، التقى بباقي رؤساء الولايات المتحدة في جنيف او في دمشق، لكنه لم يزر واشنطن مرة واحدة. كما عرف عن كثب ستة وزراء خارجية اميركيين على الاقل من هنري كيسنجر الى سايروس فانس وجورج شولتز وجيمس بيكر ووارين كريستوفر واخيرا مارلين اولبرايت.

اتقن حافظ الأسد فن تجنب المواجهة المباشرة مع الدولة العظمى. وحرص على الدوام على ان لا يقدم لها ذريعة واحدة لترتد عليه. ما كان يغلق الباب معها على نحو نهائي فتفلت العنان لاسرائيل، ولكنه لا يعطيها الا اليسير ليحافظ على الأساس فلا يفرط فيه.

في ظل الحرب الباردة كان فانس يردد: «لا مصلحة لواشنطن ان تشد الخناق كثيرا على حافظ الأسد كي لا يلقي نفسه بين احضان موسكو بالكامل». وفي ظل الاحادية الاميركية اعتمد الرئيس السوري الراحل استراتيجية السلام فرأت فيه واشنطن محاورا صعبا وموثوقا في آن فارتكزت عليه لانجاح التسوية السلمية.

تذكرتُ اسلوب حافظ الأسد عندما سمعت ان بشار الأسد وافق مع كولن باول على اخضاع خط الانبوب العراقي ـ السوري الممتد من كركوك الى بانياس لمراقبة الامم المتحدة. وتصورت مدى سرور وزير الخارجية الاميركي الذي طرح الموضوع على الرئيس السوري ثلاث مرات في اجتماع واحد ليتيقن بأنه موافق، والذي سارع الى الاتصال مباشرة بالرئيس الاميركي ليزف له النبأ السار، وخرج بعدها وهو يتباهى بهذا الانجاز، وهو في الواقع الانجاز اليتيم الذي حققه إبان جولته في الشرق الاوسط.

قد يتصور البعض ان الرئيس السوري تجاوب مع الطلب الاميركي لمراقبة تصدير النفط العراقي قصد عدم اعتراض واشنطن على ترشيح دمشق لمقعد في مجلس الأمن العام المقبل. لكني ارجح شخصيا ان بشار الأسد اقدم على هذه الخطوة التي فاجأت الكثيرين، بمن فيهم باول نفسه، وغايته ان يحول دون ان تفتعل ادارة جورج بوش مشكلة تؤدي الى توتير العلاقات السورية ـ الاميركية، مما يعطي ارييل شارون فرصة مجانية لممارسة شتى انواع الضغوط على سورية، بما في ذلك تهديدها بالحرب.

بالطبع يدرك بشار الاسد اهمية التجاوب مع باول في موضوع العراق، وهو موضوع عزيز على قلب «جنرال» حرب الخليج الثانية. كما يدرك ان وزير الخارجية الاميركي سيستخدم الورقة السورية ليطلب من تركيا والاردن بأن يحذيا حذو دمشق.

غير انه يدرك ايضا انه يعطي امرا يسيرا ولكن ثمينا بالنسبة لواشنطن، وهو ان تراقب الأمم المتحدة انبوب النفط، ليأخذ في المقابل امرا عسيرا، وهو ان تكون واشنطن مستعدة لأن تمانع وتمنع ارييل شارون من ان يشن حرباً على سورية، او على الجيش السوري المنتشر في لبنان. انه اسلوب حافظ الاسد بامتياز: يميز بين المهم بالنسبة لمحاوره والأهم بالنسبة له، فيقدم شيئا من المهم ليحافظ على كل شيء في ما يتعلق بالأهم.

واني لمتيقن ان باول عاد من دمشق وهو يحمل صورة اكثر ايجابية عن الرئيس السوري، وقد تشكل هذه الخطوة السورية الصغيرة مدماكاً كبيراً في مستقبل العلاقات الاميركية ـ السورية.

* * * من اللافت ان اصرار باول على موضوع العراق دون سواه من المواضيع الساخنة في الشرق الاوسط، يكشف جملة امور تتعلق بسلوك الادارة الاميركية الجديدة الوافدة الى البيت الابيض. وأول ما جرى الكشف عنه في دمشق ان واشنطن تسعى الى تحقيق انجاز سريع، وتبحث عن هذا الانجاز في جبهة العراق وليس في جبهة فلسطين ولا في جبهة عملية التسوية السلمية في المنطقة. ولا غرابة في هذا السلوك ما دام كبار المسؤولين والمستشارين الذين يحيطون بالرئيس الاميركي هم خبراء في شؤون العراق وغير ضليعين في شؤون التسوية السلمية، ويهمهم التفرغ لتصفية الحساب مع النظام العراقي اكثر مما يهمهم انقاذ السلام التي ورثوه عن بيل كلينتون.

ولا ريب ان الادارة الاميركية تستهون تصفية الحساب مع النظام العراقي على محاولات انقاذ عمليةالسلام، ولربما يساورها الاعتقاد انها تملك حظوظا كبيرة لحسم المسألة العراقية واعادة الاعتبار الى القوة الاميركية العسكرية، بينما تتخوف من التورط في مسألة التسوية السلمية من دون نتيجة، فلا تقدر ان تعيد الاعتبار الى القوة الاميركية الدبلوماسية.

ان الخيار الاميركي الجديد في غاية الوضوح، اذ تريد واشنطن قبل كل شيء احتواء النظام العراقي، وهي مستعدة للجوء الى كل ما يخدم سياسة الاحتواء وإبعاد كل ما يضر بها. واذا كان النظام العراقي يستفيد من الرحلات الانسانية، فلا ضير من منعها. واذا كان يستفيد من مبادرات عربية لتحقيق التضامن العربي في وجه اسرائيل، فلا بأس من عرقلتها. فهي تمانع كل صغيرة كالرحلات الانسانية او كل كبيرة كالتضامن العربي طالما ان النظام العراقي قادر على ان يستفيد منها.

لقد صممت واشنطن على انهاء الوضع العراقي بالحسنى او بالقوة، وهي مستعدة لادخال باقي الأزمات في الثلاجة الى حين الانتهاء من حسم هذه المشكلة بالأولوية، وتجهد الدبلوماسية الاميركية الى الحيلولة دون تسليط الأضواء على اي ازمة اخرى، صغيرة كانت ام كبيرة! وفي سياق هذا المنطق تمارس الادارة الاميركية اقصى الضغوط على جبهتين لتهدئتهما ومنعهما من التأثير على مجريات المسألة العراقية وهما: الجبهة الفلسطينية حيث الانتفاضة، والجبهة اللبنانية حيث «حزب الله» والمقاومة. وفي هذا الاطار سوف تضغط واشنطن على السلطة الفلسطينية لوقف الانتفاضة قبل التوغل في عملية السلام على المسار الفلسطيني، وسوف تسعى لدى دمشق للجم «حزب الله» من دون التورط في مسائل السلام على المسارين السوري واللبناني.

وتقضي الخطة الاميركية الجديدة ضد العراق بالغاء بعض العقوبات الاقتصادية التي تلحق الضرر بالشعب العراقي، مما يوفر لها امكانية تشديد العقوبات الاخرى المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والمنتجات العسكرية على اختلافها، وقد ترجم باول ما يطلق عليه تسمية «العقوبات الذكية» بتخفيف العقوبات لغايات انسانية مما يسمح له بأن يشدد العقوبات لغايات سياسية وعسكرية.

انتهت سياسة «الاحتواء المزدوج» للعراق وايران، وحلت محلها سياسة «الاحتواء الاحادي» للعراق منفردا. وتقضي سياسة «الاحتواء الأحادي» وقف عمليات الانتفاضة في الداخل و«حزب الله» على الحدود، وقد يتحول «الاحتواء الأحادي» في لحظة ما الى «احتواء ثلاثي».

وأغلب الظن ان ادارة جورج بوش لا تراهن كثيرا على امكانية استئناف حوار مجد بين السلطة الفلسطينية وحكومة شارون. وقد لا تتورع عن الاعتماد على عصا اسرائيل الغليظة اذا وجدت ان عمليات الانتفاضة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية تعيقها من تحقيق اهدافها في العراق.

من هذا المنظار الاستراتيجي يمكن فهم ما اقدم عليه بشار الاسد في موضوع انبوب النفط العراقي على انه حركة وقائية لحماية سورية من جهة، وحماية الانتفاضة و«حزب الله» من جهة ثانية، بانتظار نتيجة المواجهة المتوقعة قريبا بين واشنطن وبغداد.

يبدو لي ان بشار الأسد مقتنع في قرارة نفسه بأن جورج بوش سيفشل على جبهة العراق، وهو يعمل على اساس ألا يدفع سورية ولبنان والانتفاضة ثمن هذا الفشل.