البعد التاريخي للعلاقة السورية ـ اللبنانية

TT

منذ أيام، كنت غافيا أسمع محطة اذاعة فرنسية (اف. ام) فنبهني حوار للمذيع، ويبدو انه من يهود الاعلام الفرنسي، مع شابين يعملان في مؤسسة فرنسية. سألهما المذيع: من أين أنتما؟ قالا: نحن لبنانيان. يمضي المذيع في اسئلة واجوبة كأنها معدة سلفا: ما هي أصول اللبنانيين؟ يجيبان: «اللبنانيون ـ يقصدان الموارنة ـ فينيقيون». ضحكت ورثيت لشهادة زور على التاريخ.

منذ سنين قليلة، سألت «فينيقيا» آخر عن اصل اسم عائلته الطريف. قال لي ريمون اده عميد الفينيقيين الموارنة ان نسبه (إده) يعود الى أدونيس الجد الاكبر للعائلة. لم أضحك. اكتفيت بابتسامة مؤدبة. بالطبع، لم يكن الزعيم الماروني الراحل يقصد ان قرابة ما تجمعه مع الشاعر السوري علي احمد سعيد اسبر الذي اغتصب هو ايضا اسم ادونيس احد ابطال الميثولوجيا الفينيقية، تهربا من عروبته.

للأمانة مع التاريخ والموارنة، اقول ان الفينيقيين سكنوا سواحل تونس واسبانيا وسورية. كانوا مهرة في التجارة والابحار والقرصنة. واتهمهم المؤرخون بجفاء الطبع، وبتقديم اطفالهم قرابين لآلهتهم. كان الفينيقيون من الاقوام السامية التي هاجرت من شبه جزيرة العرب منذ بواكير الألف الثاني قبل الميلاد. وعلى الرغم من ان ملكهم حيرام في صور باع اليهود أرز لبنان لبناء هيكلهم في القدس في زمن سليمان، فقد كانت لغتهم احدى اللغات السامية التي انبثقت عنها العربية (بيت. راس. ميام/مياه...).

لسوء حظ الموارنة، فالتاريخ لا يجمعهم مع الفينيقيين. فر الموارنة السريان من وسط سورية وشمالها الى جبال لبنان في العصر الأموي (اواخر القرن السابع الميلادي) فيما كان الرومان قد سحقوا الفينيقيين في القرن الميلادي الثاني. تعرب الموارنة في اللغة ولم يتأسلموا. فقد كان الامويون متسامحين دينيا مع الاقوام السامية والعربية (الموالي) ومعظمها مسيحي. كان الاضطهاد الديني البيزنطي سببا للجوء الموارنة الى الجبل العالي، وليس الى الساحل (الفينيقي).

لا اريد ان اوغل في التاريخ القديم في هذا المجال الضيق. اكتفي بهذا القدر عن علاقة لبنان بسورية قبل العروبة والاسلام. واضيف ان لبنان في العصور الوسيطة رفدته هجرات قبلية عربية عبر الشام (سورية). بل هناك اليوم اسر مارونية عريقة ذات اصول عربية لا تستطيع انكارها (الجميل. الخازن. شهاب. حبيش. الدحداح...).

في العصر العثماني (1516 ـ 1916) تمتع جبل لبنان، بفعل التدخل الاوروبي، بأشكال الاستقلال الذاتي عن ولاية الشام المحكومة عثمانيا. بعد التنوخيين الذين استكملوا تعريب لبنان، برز المعنيون، فالشهابيون. ثم نظام «القائمقامية» الذين قسم لبنان الى منطقتين مسيحية شمالية، وجنوبية درزية. وانتهى الحكم الذاتي بنظام «المتصرفية» (1861 ـ 1914).

كانت مشاركة زعماء الموارنة ومسيحيي لبنان الواسعة والبارزة في البنى الهيكلية للدولة العربية الفيصلية في سورية (1918 ـ 1920) تتويجا لمساهمة لبنان المسيحي الفاعلة في يقظة الوعي القومي والثقافي للامة العربية منذ بداية القرن التاسع عشر. الاسماء الثقافية واللغوية كثيرة: البستاني ـ اليازجي ـ شميِّل ـ الشدياق ـ زيدان ـ وجبران المهاجر الذي ملأ أدبه بسوريته اكثر مما ملأه بلبنانيته. نجا القوميان العربيان نجيب عازوري وامين الريحاني من ملاحقة الاتراك، لكن حبال المشانق التفت حول أعناق المسيحيين التفافها حول اعناق اخوتهم المسلمين في ساحتي الشهداء ببيروت ودمشق (1915 ـ 1916).

قوض الفرنسيون الدولة السورية المستقلة بالقوة المسلحة في عام 1920، واعلنوا قيام دولة «لبنان الكبير» ضامين اليها ثلاث مناطق سورية: الساحل امتدادا من عكار وطرابلس الى صور مع الجنوب الشيعي، ثم سهل البقاع، لكن السوريين سارعوا الى عقد مؤتمر في جنيف (1921) بزعامة ميشيل لطف الله المسيحي اللبناني المهاجر الى مصر. وشارك في المؤتمر الطرابلسي الشيخ رشيد رضا، والدرزي شكيب ارسلان، والسني رياض الصلح وزعماء فلسطينيون، مطالبين باستقلال سورية التي تضم لبنان وفلسطين، الا ان اتفاق سايكس ـ بيكو كان قد ارتسم على الارض بالقوة.

تعود ريمون إده كلما زرته في فندقه الباريسي ان يروي لي مرارا وتكرارا كيف رسم السياسي الفرنسي الكبير كليمنصو لبنان الكبير. قال انه امسك بالقلم الاحمر، وادخل دمشق في خريطة لبنان. ثم قال للبطريرك يوسف حويك وإميل إده (والد ريمون): هل يرضيكم لبنان هكذا؟ يصيح حويك وإده: لا، لا، لا نريد دمشق. هذه مدينة إسلام. إسلام.

الواقع ان انهداما زلزاليا كبيرا حدث بين سورية ولبنان منذ ذلك الحين. فقد انحاز معظم الموارنة والمسيحيين اللبنانيين الى خريطة لبنان الاوروبية، متخلين حتى عن مواصلة المساهمة في رسم خريطة العرب الثقافية واللغوية. غير ان النضال الوطني من اجل الاستقلال والوحدة الثنائية ظل مشتركا خلال العشرينات والثلاثينات بين الجيل القومي الاول في سورية ولبنان. وكان هذا الجيل مؤلفا في لبنان من الزعماء السنة وبعض كبار مثقفي الدروز، وعلى رأسهم الامير شكيب ارسلان جد وليد جنبلاط لأمه.

هذا النضال المشترك ما لبث ان تعرض بدوره الى الانقطاع والانفصال. آثرت البورجوازية والارستقراطية السنية في لبنان التنسيق منذ منتصف الثلاثينات مع الموارنة، من اجل لبنان «سيد مستقل» ـ عن سورية ـ لكن بوجه عربي. كان حضور العروبي رياض الصلح في عداد الوفد السوري الذي عقد معاهدة للاستقلال في باريس آخر مساهمة لبنانية سنية في ذلك النضال المشترك. قبل الزعماء السوريون على مضض ارادة البورجوازية السنية اللبنانية التي مثلتها بشكل خاص أسر بيروتية رفيعة: آل بيهم والداعوق والصلح وسلام، تماما كما قبلوا، بتسامح، سلخ المناطق السورية الثلاث، وضمها الى لبنان.

جسد القبول السوري بهذا الواقع الجغرافي ديمقراطية العلاقة النزيهة والحرة بين البلدين في ذلك العصر النضالي الرومانسي. كان الانفصال محزنا وأليما، لكنه كان واقعيا. كان الموارنة في ذروة قوتهم وحلفهم مع فرنسا بزعامة إميل إده، فيما كانت الحركة الوطنية المارونية بزعامة الشيخ بشارة الخوري مع الاستقلال عن فرنسا، شرط ان ينهي السنة نضالهم المشترك مع سورية.

الواقع الآخر كون زعماء النضال الوطني في سورية قد انشغلوا عن لبنان بانقسامهم الداخلي المرير. عاد الزعيم الاكبر الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في النصف الثاني من الثلاثينات من مصر. كان منفيا ومحكوما بالاعدام لقيادته الثورة السورية (1925 ـ 1927)، عاد ليناصب «الكتلة الوطنية» وزعماءها (جميل مردم وشكري القوتلي وسعد الله الجابري) العداء، رافضا معاهدة الاستقلال المنقوص (1936).

استمال الشهبندر السوريين اليه بفصاحة خطابه، وقوة منطقه، وعمق ثقافته، وطهارة وطنيته الملتهبة. لكن حكومة فيشي الفرنسية الفاشية التي سيطرت على فرنسا وسورية ولبنان بعد الاحتلال النازي، تضايقت من الشهبندر، فدبرت له «مؤامرة اغتيال» واسندت تنفيذها الى الاصولية السنية السورية. كان اغتيال الطبيب الشهبندر (العلماني الكافر)، وهو بملابسه البيضاء في عيادته عام 1940، اول عملية اغتيال ارهابية ترتكبها الاصولية في العالم العربي الحديث.

اضع هذه الفذلكة المختصرة عن البعد التاريخي للعلاقة السورية ـ اللبنانية امام الاجيال الجديدة في البلدين لكي لا تجهل التاريخ السياسي العربي الحديث. لكن هل هذا كل شيء عن تاريخية العلاقة؟

لا، لا بد من استكمال الرواية بالحديث عن الاشتباك المربك في هذه العلاقة بعد الاستقلال، لا سيما في عصر حافظ الاسد، وصولا الى الانسحاب السوري من لبنان في عصر بشار الاسد.