إرهابيون أردنيون في العراق... كيف؟

TT

الأبشع من القتل، هو الاحتفاء بالقتلة..! هذا ما حصل بالضبط مع عملية مدينة الحلة جنوب العراق في 28 فبراير الماضي، هذه العملية قام بها انتحاري اردني، بواسطة سيارة مفخخة، قدر ضحاياها بـ(150 قتيلا و200 جريح)، بعضهم يصارع الموت الآن. مواطنون بؤساء، كانوا يحتشدون امام مركز طبي للبحث عن مصدر عيش والتفتيش عن وظيفة يعولون منها أهلهم.

الانتحاري الاردني رائد منصور البنا من مواليد (1973)، كان يقود سيارة الموت، وعند انفجار كرة الرعب منها حاصدة الحياة والامل والامان، لم يبق منه الا ذراعاه الملتصقتان بمقود السيارة!

مسلسل القبح لم ينته، وبقي فصل منه يكثف بقية السوء... فقد قالت صحيفة «الغد» الأردنية، إن عائلة البنا المقيمة في مدينة السلط، أقامت «عرس شهيد» لابنها رائد منصور البنا. وأضافت: «ان والد الانتحاري وقف يتقبل التهاني في استشهاد ابنه بفخر واعتزاز، في ديوان العشيرة في منطقة الجدعة الوسطى، وسط مدينة السلط». (العربية نت).

الذي زاد النار اشتعالا أن هذا القتل اخذ صبغة طائفية، ممزوجة بسائل اصولي كريه من الاساس، فالحلة مدينة ذات غالبية شيعية، ومنظمة القاعدة لا تخفي وجود بعد طائفي في حربها الشاملة في العراق، من تفجير موكب محمد باقر الحكيم، الرهيب هو الآخر في اسلوبه وضحاياه، الى تفجير الحسينيات الى تفجير الكاظمية الى تفجيرات عيد الاضحى الماضي... ولم تخيب قاعدة الزرقاوي الظنون، فتبنت تفجير الحلة الضخم بشكل سريع، وأعلنت مسؤوليتها عن مذبحة الحلة، مؤكدة أن جماعة (القاعدة في بلاد الرافدين)، هي الفاعلة قائلة: «انغمس ليث من ليوث كتيبة الاستشهاديين في تجمع من المرتدين أمام مركز لتسجيل الشرطة والجيش الوثني (الحرس الوطني) في الحلة، وفجر سيارته المفخخة، فقتل منهم 125 مرتدا ولله الحمد والمنة». واضاف البيان: «واخوانكم في تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين ماضون في جهادهم حتى يحكم شرع الله»..!

طبعا هؤلاء «المرتدون» هم مواطنون بسطاء، لا يفقهون في كتب مفتي الزرقاوي، الاردني الاخر ابو محمد المقدسي، ولا في ادبيات الولاء والبراء وتكفير «المبتدعة» وشيوخ الغلو والتكفير، الذين يسرحون ويمرحون في طول العالم الاسلامي وعرضه... في كل مكان... نعم في كل مكان.

بعد مجزرة الحلة بأيام وقع في 10 مارس الحالي تفجير ابشع منه، في فكرته لا في عدد ضحاياه، في مدينة الموصل السنية، حيث قام انتحاري مزنر بالمتفجرات، بالدخول في وسط مشيعي جنازة استاذ جامعي، شيعي، وقام بتفجير نفسه وسط المشيعين، موقعا 50 قتيلا ونحو 80 جريحا. وقد الغي تشييع جماعي كان مزمعا لهؤلاء الضحايا، بعد سقوط قذيفة هاون على مكان العملية نفسه!

ما هذا القبح المنهمر؟! من أنتجه؟ كيف ولد؟ هل هو في وارد الاضمحلال؟

من الواضح أن المشكلة ليست محصورة في بلد معين، كما اوحى به احتجاج المرجع الشيعي علي السيستاني على الحكومة الاردنية، التي خرج منها الزرقاوي وجنوده من رسل الموت، ووافقه في ذلك عبد العزيز الحكيم، مستغلا الحوادث البشعة ضد الشيعة، للرد على ملك الاردن عبد الله الثاني، الذي حذر من قيام هلال شيعي اصولي في المنطقة.

ومع ان السيستاني والحكيم مصيبان ومحقان في نقد الحكومة الاردنية، في خصوص واجبها المتمثل بمنع وصول رسل الموت والكراهية الى العراق، الا انهما غير مصيبين في التسوية بين موقف «جماعات اصولية» في الاردن تنشط في العراق، وموقف الدولة الاردنية الواضح في مقاومة الجماعات الاصولية، وتحديدا خط المقدسي والزرقاوي، الامر الذي اثار حنق الزرقاوي نفسه، فحاول مع تياره القيام بإرعاب الدولة الاردنية، عبر تشكيلة من العمليات أو الأنشطة المتصلة بالإرهاب: «خلية الجيوسي الكيميائية، تهديد الزرقاوي بضرب مصالح حكومية، وجود عشرات الاصوليين من جماعة المقدسي في السجن على خلفية قضية «بيعة الامام»... الخ».

لكن ما يبدو انه أثار غيظ الرمزين الشيعيين، هو التحذير من قيام دولة اصولية شيعية في العراق، او بشكل اكثر وضوحا، التحذير من استيلاء الخط الاصولي على المشهد السياسي الشيعي في العراق، الامر الذي كان ملك الاردن محقا فيه.

غير ان ذلك لا يلغي صحة الشق الاول من احتجاج السيستاني والحكيم، على التدخل السافر من قبل الاصوليين الاردنيين في مستقبل العراق، ومحاسبة الدولة الاردنية المسؤولة عن كف شرور هؤلاء عن العراق واهله.

والمذهل ان الاردن، وعلى رغم قلة كثافته السكانية قياسا بسوريا ومصر والسعودية، وعلى الرغم من موقفه الرسمي البعيد كل البعد عن سياسات الدول الثورية القومية (سوريا مثلا) او الاصولية الاسلامية (ايران مثلا)،

الا أن مواطنيه هم الابرز إسهاما «نوعيا» في ارهاب العراق الحالي، بدءا من القائد ابي مصعب الزرقاوي، الى مفتي الجماعة القتيل ابي انس الشامي، ولا ننسى رائد خريسات، او ابو عبد الرحمن الشامي، الذي سبق ابا مصعب الى العراق وكمن في جبال كردستان لدى جماعة انصار الاسلام الكردية السلفية المتطرفة.

وأخيرا ها هو رائد البنا مفجر الحلة، خريج جامعة مؤتة جنوب الاردن، ينضم الى الركب، وهو كان مقيما لفترة من الوقت في امريكا، وكان موجودا بها اثناء تفجيرات 11 سبتمبر الشهيرة، كما كان ملازما للداعية المصري المعروف وجدي غنيم.

طبعا هذا لا يعني القول ان ارهابيي العراق الاجانب، هم من الاردن فقط، فكلنا يعلم عن السوريين والسودانيين والسعوديين، بل وحتى الكويتيين الذين يتسللون الى العراق للـ( جهاد)، بفعل التحريض الديني والاعلامي اليومي... وليست هذه قصتنا الآن.

نحن نتأمل هنا في تفسير هذا الاسهام «النوعي» من قبل متطرفي الاردن «الديموقراطي» في ارهاب العراق.

التقارير تشير الى تركز الوجود الاصولي المتطرف اردنيا في مدينة السلط غرب عمان، التي اثنى على شبابها ابو محمد المقدسي في رسالته الشهيرة الى الزرقاوي.

والكثير من المعتقلين الجهاديين في الاردن من التيار المعروف باسم «السلفية الجهادية» هم من مدينة السلط، حاضرة امارة شرق الاردن القديمة، ومن اشهرهم المهندس جراح قداح رجاجلة (40 عاما)، حسب موقع التوحيد والجهاد التابع لانصار المقدسي، الذي اضاف بفخر، أن هذه المدينة خرج منها ما يقرب من 30 (شهيدا في العراق)!

الغريب ان هذا الازدهار الاصولي العسكري المتطرف في الاردن، لم يتأثر بالبحبوحة السياسية التي يتمتع بها اسلاميو الاردن في الحياة السياسية، فهم عبر الاخوان المسلمين، يشاركون في الحكم، واستوزر منهم أكثر من مرة، وكذلك عبر الفوز المتتالي في الدورات البرلمانية، بل ان قطبا اخوانيا بارزا تولى رئاسة مجلس النواب الاردني في احدى دوراته (عبد اللطيف عربيات)، وهو بالمناسبة من ابناء السلط ، وكانوا على علاقة وثيقة بالعرش الهاشمي.

كل هذا وغيره، لم يمنع اسلاميين آخرين من تكفير الملك حسين والسعي لاجتثاث نظامه «الكافر»، مما يجعل الاصرار الدائم من قبل بعض الراصدين على تفسير ازدهار العسكرة الاصولية، باستبعاد واقصاء الاسلاميين «المعتدلين»، من المجال السياسي غير كاف ولا دقيق، وإلا فماذا نقول عن نموذج مثل النموذج الاردني او الكويتي؟!

انه خلط للسياقات غير مبرر، ولا يعني هذا ابدا الدفاع عن القمع والاستبداد والفساد، فهو ماثل للعيان، ولكن ذلك يعني وضع كل شيء في مكانه الصحيح...

خلط الاوراق ليس مقتصرا على فريق دون آخر في العالم العربي، او على اصولية دون اخرى، فهذا هو السيستاني ومعه الحكيم يخلطان مطلبهما المحق من الدولة الاردنية بكف الأذى عن العراقيين، والشيعة تحديدا، بالكف عن الخوف من الاصولية الشيعية، فما دخل هذا بذاك؟!

ان ما نطلبه وما نحن مقتنعون به هو موقف ضد كل الاصوليات المسيسة التي تريد تحويل الدين الى سلاح سيطرة وهيمنة سياسية على الجميع، انه حذر ورفض لكل هذه الاصوليات شيعية كانت أم سنية.. حتى لا يذهب الظن الطائفي بعيدا...

[email protected]