ربيع لبنان: نصف الكوب الممتلئ

TT

كان لبنان مرجلا يغلي عندما عشت فيه لينتهي ذلك الوضع بانفجار حرب أهلية رهيبة في ربيع عام 1975، والآن بعد 30 عاما، لم ينقص ذلك من احترامي للشعب اللبناني أو أسفي على مصيره، ومع ذلك فإن من الصعب الثقة في غريزته السياسية. ولا يعني هذ تقليلا لشأن المتظاهرين الذين خرجوا بمئات الآلاف احتجاجا على الاحتلال السوري لأرضهم، فقد عكست هذه المبادرات شجاعة ووحدة وطنية ظلت غائبة لفترة طويلة.

كذلك فإننا لا نختلف مع أولئك الذين اعتبروا أن ربيع بيروت الجنيني هو خطوة إيجابية نحو تحول ديمقراطي في الشرق الأوسط، فهذه لحظة يجب دعمها وتوسيعها مثلما اقترح الرئيس بوش حينما قال إن «الثلج بدأ يذوب» بالنسبة للمنطقة. لكنها أيضا لحظة تتطلب تجنب وضع توقعات كبيرة تدفع نحو التحرك بسرعة على أرضية الواقع اللبناني المعقد، وتأتي وجهات النظر المتعارضة من القوى الخارجية وبالدرجة الأولى من فرنسا والولايات المتحدة. ومن هنا فأفضل طريقة لمساعدة إعادة ولادة لبنان كأمة، هي التركيز على المفاوضات السياسية الهادفة للمشاركة في السلطة بالنسبة لكل الأطراف، بحيث تظل المبادرة بيد اللبنانيين، وهم وحدهم الذين يجب أن يديروا بلدهم حالما يرفع السوريون الضغوط عنهم.

يمكن القول إن الفئات الثلاث الأساسية المكونة للنسيج اللبناني: المسيحيين والسنّة والشيعة، تعتمد بطريقة مخيفة على القوى الخارجية لمنحها هامشا من الهيمنة التي لا يستطيع أي طرف لوحده تحقيقها. وتستطيع واشنطن المساعدة بشكل كبير من خلال التحفيز وعزل عملية المصالحة الوطنية عن تدخلات القوى الخارجية مثلما تفعل حاليا بضغطها على السوريين كي يغادروا، فيما يجب تجنب حالة التفاؤل المتضخم التي برزت بإمكانية اتفاق الجميع على التغيير.. فالتفاؤل المبالغ فيه تجاه العراق سبّب تصاعد مرارة شديدة بعد الحرب مع تشاؤم مبالغ فيه داخل الإدارة الأميركية وخارجها. هذا التقلب السريع الجاري حاليا بين مفهومي «النجاح» و«الفشل»، غطى على الحاجة إلى تحول سريع في نقل المسؤولية للعراقيين، وساعد على تأجيل الانتخابات هناك. لقد تعرضت مدارج الانطلاق السياسي في العراق إلى قصف شديد وبالاتجاه المعاكس وبشكل متكرر.

يمكن أن يتكرر في لبنان شيء مماثل لما جرى في العراق، فهو بلد قابل على إعطاء دروس في الاختلافات السياسية والجغرافية.

لكن الفوارق الاجتماعية الشاسعة التي يحتويها لبنان تجعله قصبة ضعيفة، ويستطيع الباحثون عن المقاربات التاريخية أن يركنوا لثورات أوروبا عام 1848، والتي كانت لم تزل في طور النشوء، بدلا من استدعاء انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين عام 1989، باعتبارهما نموذجا للتحليل. فالانتفاضات التي نجحت في البدء داخل فرنسا وألمانيا وهنغاريا وإيطاليا وبلدان أخرى عام 1848، تمت إزالتها على يد حكومات استبدادية جديدة، ولذا فالقول إن الثورات «فشلت» هو إساءة فهم للتاريخ، إذ أن ما أثارته من حوافز آلت إلى فتح الطريق صوب الوحدة الوطنية في كل من هذه البلدان، وبروز الديمقراطية فيها بعد فترة طويلة عن ثورات 1848، ومن هنا لا يجب التسرع في إصدار الأحكام بما يخص أحداث الأسبوع الماضي الصعب داخل لبنان.

وهناك مفارقة مصدرها أن باريس وواشنطن وجدتا قضية مشتركة للضغط على بشار الأسد لسحب وحداته من لبنان، والتي تم إرسالها أولا إلى بيروت عام 1976 بموافقة القوتين العظميين آنذاك: أميركا والاتحاد السوفيتي. ويقول دبلوماسي أوروبي: «باريس تريد تحقيق الاستقرار في لبنان، وواشنطن تريد زعزعة النظام في سورية... هناك شيء ما لكل طرف».

لكن العمل الأكثر صعوبة ما زال على الطريق مع مساعي الأسد المتوقعة لكسب مزيد من الوقت، مع وعود غامضة واستعراض للقوة من خلال حليفه حزب الله، ومع ذلك فالحكم الأساسي الذي اتخذته إدارة بوش في ربيع 2002، والمتمثل بأن حالة الأمر الواقع القائمة في الشرق الأوسط لا يمكن إبقاؤها، أثبت صحته، وأن الاستمرار فيه مطلوب من خلال ربيع بيروت الحالي.

* خدمة مجموعة كتاب «واشنطن بوست» ـ

خاص بـ«الشرق الأوسط»