صبي الترعة الأسمر

TT

الأفلام المصرية التي حضرتها على مدى السنين، قليلة جدا. والسبب الأول: الحياة الطويلة في الخارج، قبل أن تكون هناك فضائيات عربية. وتعرفت الى بعض الأفلام من خلال النقاد الأجانب وخصوصاً في فرنسا. وبقدر ما أثر في حياتي الصوت المصري بقدر ما غابت عن ذكرياتي الصورة المصرية.

وباستثناء ما شاهدت في طفولتي من أفلام عبد الوهاب، فقد ظل هو وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ في ذاكرتي مجرد أصوات لا أشخاص.

ولأن مشاهداتي للأفلام كانت قليلة، فإن إعجابي ببعض أبطال السينما المصرية كان محصورا. وقد طغت على الجميع فاتن حمامة، صوتاً وصورة وحضوراً. وبعدها تعرفت الى أفلام سعاد حسني، ثم الى يسرا، هذا الحضور الذي لا حد لعذوبته والطيبة التي لا حد لتدفقها.

في أفلام سعاد حسني تعرفت الى أحمد زكي، الصبي المصري الأسمر الهائم بين الترع. كان محمد عبد الوهاب قد قال إن سمير غانم نمط جديد في الكوميديا لأنه لا يضطر أن يتشدق لكي يضحكك أو أن يقلب الصحون على زوجته. وعندما شاهدت أحمد زكي لاحظت أنه أقرب ممثل مصري الى شخصيته الطبيعية: لا تأوه ولا يرفع حاجبا ويرخي الآخر علامة الغضب، ولا يهز عند الفرح، ولا يلعلع صوته عند الشعور بالهزيمة: ها وديكي في داهية يا بت يا عطيات!

تشوقت دائماً الى حضور أي فيلم متوافر لأحمد زكي. وحرصت على حضور فيلميه التاريخيين، عبد الناصر والسادات. وكنت أسأل نفسي كيف يستطيع رجل واحد أن يشخص رجلين متناقضين الى هذا الحدّ؟ وإذا من السهل، مبدئياً، تشخيص أنور السادات لما في سلوكه وطباعه من ملامح بارزة، أو فارقة، فكيف يمثل أحد شخصيات عبد الناصر المحدودة الإطار، المحصورة ما بين إلقاء الخطاب السياسي الطويل وعدم الظهور؟ في حين أن السادات، الذي حلم وهو شاب بمهنة التمثيل، كان هو نفسه يلعب الأدوار المتعددة: مرة مارشال جو ومرة أميرال بحر ومرة صعيدياً ابن بلد.

كان هناك اختلاف هائل بين عبد الناصر والسادات في كل شيء، حتى في درجة السمرة. وكانت هناك أيضا العلامة الفارقة عند السادات، وهو الأثر الذي في جبينه. واعتبره محمد حسنين هيكل مأخذاً على الرجل ودليل عبودية في كتابه المرّ عن الرئيس الخصم، مع أن الآية الكريمة تقول: «سيماؤهم في وجوههم من أثر السجود».

برز أحمد زكي في دور عبد الناصر وفي دور السادات. وكانت سمرته وملامحه المصرية هي القاسم المشترك. أما السبب الأول فكان اجتهاده. فهو لم يأخذ شيئاً في خفة ولم يعمل عملاً من دون إتقان. إلا أن الدور الأهم، كان دوره الطبيعي كمصري هائم بين الترع. وابن بلد طيب وخفور. وإنسان متواضع لم يخرج على نفسه وإطاره ومناخه. هناك عدد من الممثلين لم يبقوا مجرد صور على الشاشة. لقد أصبحوا جزءاً من العائلة العربية وفردا من أفرادها. ورفعوا من قيمة الفن وقدر الفنانين. وعندما اتصل الرئيس مبارك بأحمد زكي في المستشفى قبل أيام، شعرت بشيء من الحزن وشيء من الخوف. وشيء من الأمل.

لكن احمد زكي في أي حال لم يمر عابراً في السينما، إنه بلا شك أهم أبناء جيله. وأفضل من مثل هذا الجيل على الشاشة، خصوصاً في «اضحك علشان الصورة تطلع حلوة»، وما هي تلك الصورة إلا صورة الإنسان العربي العادي المفطور على الحب والقناعة وعزة النفس. تلك كانت صورة أحمد زكي في الحياة وفي عالم السينما الذي ازداد اقترابا من واقع الحياة. ولذلك استطاع أحمد زكي أن يشبه جميع أبطاله، من طه حسين الى ضابط الشرطة في «زوجة رجل مهم». وفي كل تلك الأدوار كان الأكثر إقناعا، حتى لم يعد في الإمكان التفريق بين المصري الأسمر الطيب على الشاشة وبينه في واقع الحياة التي أعطاها الكثير ولم تكافئه كما يستأهل.