عاقل ومجنون

TT

كثيراً ما يرتقي العقل والذكاء المفرط إلى مستوى الجنون ويختلط علينا الأمر. كثير من عباقرة التاريخ كانوا في الواقع مجانين. تصف العامة مثل هذا الرجل بقولهم إنه «عاقل ومجنون»، ويصفه الإنجليز فيقولون: «هناك أسلوب في جنونه» There is Method in his Madness.

كان من هؤلاء، النواب الكبير في بغداد، أحد أعمام الشاعر مظفر النواب. جاءت عائلة النواب من الهند قبل الحرب العظمى واستقرت في قصر منيف مطل على نهر دجلة في بغداد.

كانوا يتقاضون راتباً من الحكومة البريطانية التي نفتهم إلى العراق، وبالتالي لم يكن لديهم شيء يفعلونه غير المتعة وإزجاء الوقت. اعتاد النواب الكبير الذي اعتبره الناس مجنوناً أن يقضي وقته بالتمشي في الحوش جيئة وذهاباً. يمسك بيده ليرة ذهبية يرمي بها في الهواء، يسمع رنينها قبل أن يتلقفها بيده ثانية. وهكذا يقضي نهاره. مجنون!.

لكن الليرة أفلتت من يده يوماً وتدحرجت ووقعت في البالوعة. اخرج من جيبه ليرة أخرى واستأنف لعبته. لكنه بعد بضعة أيام استدعى أحد نزاحي البلاليع وذكر له كيف وقعت تلك الليرة في البالوعة. قال له أريد منك أن تنزح البالوعة وتبحث فيها عن الليرة وتأتيني بها.

قال له النزاح: هذه عملية شاقة، ان أنزح كل ما في البالوعة من قاذورات، ثم انزل فيها وابحث عن الليرة واخرجها سليمة لك!. قال له النواب: ولا يهمك، اعمل ما اطلبه منك. اجابه الرجل: للقيام بهذه العملية عليك أن تدفع لي عشر ليرات. قال: ولا يهمك، انزح واتني بهذه الليرة الملعونة.

هز النزاح رأسه وذهب ونزح البالوعة وقام بكل شيء حتى عثر على الليرة المتمردة. امسكها وخرج بها. أخذها إلى المغسلة وغسلها جيداً، ثم نشفها وسلمها لصاحبها. شكره النواب الكبير، ثم مد يده الى الدرج واخرج منه عشر ليرات دفعها للنزاح اجرة إخراجه لتلك الليرة الواحدة.

مجنون، أليس كذلك؟

هذا ما اعتقده سائر العراقيين. وكذا شعر العامل النزاح نفسه. ولم يتمالك في الحالة هذه نفسه فسأل النواب عن سر هذا الأمر، قال له: ما الحكمة في ذلك؟ تدفع عشر ليرات وكل هذا الشغل والمشقة من اجل الحصول على ليرة واحدة؟

هز النواب الكبير رأسه وقال له: حقك ان تسأل هذا السؤال. لكن اعلم يا ولدي أنني قضيت كل هذه الليالي وأنا لا استطيع النوم، أفكر بهذه الليرة المفقودة، لماذا أضعتها؟ لماذا تركتها تقع في البالوعة؟ وأظل اتصور أين هي الآن، في أي مكان؟ كيف وضعها؟ جالسة على الصورة أو على الكتابة؟ افقيا أو عموديا؟ الليل كله وأنا افكر بذلك ولا استطيع ان أنام، فخذ العشر ليرات يا ولد وطلع لي هالليرة الملعونة حتى استريح وأنام.

خرج النزاح ليروي حكايته. وأجمع القوم على أن النواب مجنون.. لكن! هل شراء راحة البال بعشر ليرات جنون حقاً أم عقل وحكمة؟