جولة الحوار الفلسطيني ــ الفلسطيني والتوجهات الجديدة

TT

بدأت جولة من جولات الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني.. ونريدها جولة حاسمة، فقد سئم الفلسطينيون حوارياتنا الممتدة على الآلاف الساعات، وسئم اصدقاؤنا من حدة خلافاتنا وضعف دوافعها أمام قوة الحاجة لتجاوزها، وارتاح خصومنا لظاهرة البوابات المفتوحة، في البيت الفلسطيني، والتي يدخل منها من يشاء، ويفعل من خلالها ما يشاء.

ولقد سبق هذه الجولة، حوارات طويلة، وأحاط بها. مناورات وتكتيكات أضحت محفوظة عن ظهر قلب، واذا كانت عناوينها البارزة متصلة بالشأن العام، الا ان اغراضها الحقيقية هي ضمان مصالح كل فصيل، وتوفير أوسع مدى للنفوذ الراهن والمستقبلي.

ومع أن ضمان مصالح الفصائل، أمر مشروع ولا اعتراض عليه.. الا ان كيفية تأمين هذه المصالح، وجعلها هدفا بحد ذاته، وإطالة أمد المناورة من اجلها، ألزم الشعب الفلسطيني كله، دفع ثمن باهظ من ارواحه وممتلكاته، وهدد بالخطر حقوقه الوطنية، التي وقف قاب قوسين أو أدنى من البدء بتحقيقها...

وفي حالات كثيرة، نجد أنفسنا بحاجة إلى إغماض عيوننا عن كل ما مضى رغم هوله وأثمانه، لتركز أبصارنا على ما نحن فيه الآن، وما يتعين علينا أن نفعل لتجاوز الخطر، ووضع الاقدام على طريق آمنة، تفضي الى ما نستطيع تحقيقه من أهداف.

مطلوب من الذين يجتمعون اليوم في القاهرة، أن يعيدوا قراءة الواقع، بطريقة مختلفة عن طرق الماضي، ومن زوايا أكثر ملامسة للحقائق، وأبعد ما تكون عن الشعارات المستحيلة والواقع يقول.. إن هنالك مرحلة جديدة، دخلها الفلسطينيون مكرهين أو بمحض ارادتهم ـ لا فرق ـ مرحلة ابرز مهماتها، انجاز التحول الجماعي، نحو تأسيس النظام السياسي الفلسطيني عن طريق صندوق الاقتراع، وسواء رغبنا أم لم نرغب، فإن نجاحنا في هذا الامر الكبير، يشكل بالنسبة للقوى الفعالة في أمر حصولنا على دولة.. الاختبار الحاسم لجدارتنا بها، وإذا كان المجتمعون في القاهرة، يدركون هذه الحقيقة فيتعين عليهم، ادراك ما يتصل بها من حقائق اخرى تشكل المناخ المطلوب لأداء المهام.

فالانتخابات.. وخاصة البرلمانية منها، لا يمكن أن تنجز ولو وفق الحدود الدنيا، بغير قدر كاف من الهدوء، المستند الى فهم جماعي لأساسية هذا الهدوء في مواصلة الاتجاه.

فالتهدئة المراهن على تحويلها الى هدنة شاملة، ليست مجرد دعامة من دعامات برنامج محمود عباس. أو مدخلا لتنفيذ هذا البرنامج، انها بالضبط، حاجة للجميع، وفي مقدمتهم حركة حماس، التي حسمت أمرها بالدخول المباشر الى انتخابات المجلس التشريعي، مع انها تعرف ان هذه الانتخابات الى جانب كونها مطلبا وطنيا، إلا أنها في حقيقة الامر، تأتي امتدادا لاوسلو، واستحقاقا من استحقاقات خطة «خارطة الطريق».

وبقدر ما يسجل هذا التوجه الجديد، كتطور ايجابي لفكر وسياسة وخيارات «حماس»، بقدر ما يترتب عليه من استحقاقات يتعين اداؤها، بالتعامل مع السلطة، وليس بالضغط عليها واعتصارها، كما لو انها وحدها من يجب ان يدفع ثمن الهدنة، أو كل استحقاقات التوجه الديموقراطي الجديد..

وعلى المتحاورين في القاهرة، أن يدركوا المعنى السياسي لوجودهم على ارض الكنانة، فمصر ليست مجرد مكان هادئ وآمن، متاح أكثر من غيره ليأخذ الزعماء الفلسطينيون راحتهم في عرض المواقف، واستعراض القوى، انها بالضبط....

شريك كبير وقوي. ليس بالمعنى الشعاراتي المتداول، بل بالمعنى السياسي التفصيلي والاستراتيجي، ولسنا بحاجة للإفاضة في شرح هذا المعنى، ويكفينا أن مصر ترى في فلسطين كلها، مصدر خطر أو أمان لأمنها القومي، وترى في دورها المقترح حاليا. ضرورة ينبغي ان يستفيد منها الفلسطينيون والمصريون على السواء.. فهي عامل مساعد وداعم داخل حدود غزة على المدى المنظور، وشريك قانوني في أمر الحدود، وقوة تحريك للمراحل التالية في الضفة الغربية، ولاعب جوهري حين تفتح قضايا الوضع الدائم للتفاوض.

إن إدراك هذا البعد في المكان الذي يستضيف الحوار، يوفر ثلاثة أرباع الطريق نحو النجاح..

وعلى المتحاورين في القاهرة، أن يدركوا.. الحجم الحقيقي للفرصة السياسية المتاحة، وأن يدركوا بعمق أكثر أهمية أن لا تسجل عليهم أسباب ومبررات إهدارها.

قد يقول كثيرون منهم.. انها ليست فرصة في الأصل، ولكن الأمر هنا، ليس مقتصرا على تحليل كل فصيل.. ومقاييسه للفرصة وجودا أو عدما، فمن يحدد وجود فرصة ام لا. هي القوى التي تصنع الفرص وتحدد حجمها، ولا تتأثر عمليا بإهدارها...

وفي حالة كهذه لندع الفرصة تنمو أو تتقهقر، بعيدا عن سعينا لتحمل مسؤولية اخفاقها.

إن الفرصة وفق المقاييس السياسية العملية، قائمة فعلا، ولكنها غير مضمونة، بل إنها شديدة الهشاشة وشديدة القابلية للتقلص.. وهنا.. يتعين على الفلسطينيين أكثر من غيرهم، اظهار الحرص على الافادة منها، والابتعاد كثيرا عن أي شبهة بتقويضها. ذلك أن الخصم والحكم، سوف يستسهلان تسجيل الفشل على الفاتورة الفلسطينية، التي هي موضوعيا جاهزة لقبوله ـ حتى إن البعض يتعامل معه كإنجاز.

إننا كفلسطينيين، ندخل مرحلة جديدة من حياتنا السياسية، مرحلة ندفع فيها الى الواجهة، وسائل مقاومة وصمود وقوة فعالة، مركزها التوجه نحو الاصلاح الداخلي وبلورة نظام سياسي ديموقراطي، يضمن المشاركة للجميع كل بحسب حجمه الفعلي في الشارع، فهل يسيطر هذا التوجه على تفكير المجتمعين هناك، ويعكس نفسه على لغتهم، التي يجب أن تكون جديدة في هذا اللقاء.. أم أن الاسطوانة إياها ستدار من جديد، وكأننا.. «يا دار لا رحنا ولا جينا».

سنرى على كل حال.

* وزير الإعلام الفلسطيني السابق