ديمقراطية الأصابع البنفسجية

TT

يحق لنا بمناسبة حلول الذكرى الثانية للاحتلال الأميركي في العراق يوم 20 مارس المقبل، أن نتساءل عن مستقبل العراق، ومستقبل المشرق العربي في ظل التداعيات الحاصلة نتيجة الاحتلال المذكور. ولأن الموضوع متعدد الأبعاد، فإننا سنحاول التركيز فقط على دعاوى الحرية والديمقراطية التي تلوح بها أميركا، وهي تبشر بمشروع إعادة بناء الشرق الأوسط الكبير. وقد اخترنا هذه الزاوية بالذات لأن النقاش العربي المتداول في موضوعها يطرح كثيراً من القضايا التي تحتاج إلى الفحص والمراجعة، حتى لا يتم إغفال بعض الجوانب التي نعتقد باستحالة التفكير في مستقبلنا السياسي من دون العناية بها وتطوير أساليب النظر فيها.

ولا بد من التوضيح في البداية بأن الحرب المشتعلة والمتواصلة في العراق، ساهمت وتساهم في خلخلة كثير من ملامح المشهد السياسي السابق على حصولها، من دون أن يعني ذلك قبولنا بالضرورة لمختلف الويلات والخرائب التي نتجت عن الغزو. وعن آلة الإرهاب الأميركية، فنحن نعي جيداً أن التحول في التاريخ وفي أنظمته يحصل بصيغ عديدة خلال مراحل التاريخ المختلفة، من بينها نمط التحولات التي ما فتئت تفجرها أزمنة الحروب والصراعات من قبيل ما يجري اليوم في المشرق العربي وفي العالم.

نستطيع أن نتحدث في هذا السياق عن مظاهر التطرف في المواقف العدوانية الأميركية، فنذكر العنف الرمزي المتمثل في الخطب والتصريحات المتواصلة للمسؤولين الأميركيين، حيث نقف على نماذج مكشوفة من صور الإنحطاط السياسي والأخلاقي في المواقف والخيارات السياسية. ومنذ دخول الجيوش الأميركية إلى العراق واحتلالها له، بدأنا نتابع نمطاً عجيباً من التصريحات الأميركية الرامية إلى نشر قيم سياسية معينة، باعتبارها القيم الكونية المناسبة للبشرية اليوم، وهي تنعم بفضائل الرسالة «التمدينية» و«التحريرية» التي تمارسها أميركا في العالم، بعد سقوط المعسكر الصانع للتوازن في العلاقات الدولية في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي.

تتجلى الملامح البارزة لهذه الصورة في الرئيس الذي يتموقع في مركز الكون، ويملك كثيراً من الوسائل التي تساعده على مراقبة ما يجري في العالم، بحكم أنه المسؤول عن تدبير نظامه وفق المبادئ والتصورات المنسجمة مع المصالح والقيم التي ترى أميركا صلاحيتها، وترى في الآن نفسه أنها متطابقة مع مطلب مواجهة التحديات التي تطرحها ظاهرة «الإرهاب» في العالم.

لنتأمل بعض مظاهر صورة الحاكم المطلق، الذي يوزع الأقدار والمصائر من دون وجل، وهي الصورة التي تحتفظ أساطير الأقدمين بعينة كبيرة منها، فنجد أنفسنا أمام من يعلن أن مشروع الحرية انطلق اليوم، وأنه لن يتوقف إلا بكسر شوكة أنظمة الاستبداد، الداعمة لكل مظاهر الإرهاب القائمة في العالم، وذلك بفضل الآليات التي تستخذم في «الحرب الوقائية».. وفي هذا الإطار يعلن الحاكم غياب الديمقراطية هنا وانطلاقها هناك، وبناء على ما سبق تصبح الانتخابات التي جرت في العراق نموذجاً للديمقراطية الجديدة، التي ستشع بأنوارها على مجتمعات الشرق الأوسط الجديد، فتصبح عمليات مقاومة الاحتلال الأميركي «إرهاباً» مثلها في ذلك مثل المقاومات التي فجرتها الانتفاضة الأولى والثانية في فلسطين، ذلك أنه في مختلف أفعال مواجهة الاحتلال ينبغي أن نتحدث عن آلة الإرهاب، كما ينبغي أن ننظر إلى أفعال الغزو والاحتلال باعتبارها الوسائل الضرورية لنشر ألوية الحرية في العالم..

تتمتع خطب الرئيس الأميركي في منطوقها بسمات التشدد والقطع، كما تتسم بالتكرار الساعي لإبراز مفاهيم محددة من دون أدنى عناية بمحتواها، وهكذا تتحول مفاهيم التحرير والديمقراطية والانتخابات إلى كلمات لا تتجاوز حمولتها اللفظية جملة من الحركات والصور والشعارات مفصولة عن دلالاته السياسية والتاريخية، كما تبلورت وتطورت في تاريخ الأفكار والممارسات السياسية في التاريخ. وعند مراقبة المفردات والصيغ المستعملة في هذه الخطب التوجيهية بمعيار الدلالة المفقودة فيها نقف على الصورة النموذجية للنمط القطعي المتشدد في التفكير، وهذه الصورة لا علاقة لها بمكاسب اللغة السياسية الحديثة والمعاصرة.

تترجم مواقف أميركا إرادة في الهيمنة على العالم، لهذا يتجه بوش لاستعمال لغة التهديد، ولغة التصحيح، وهو يعلن مواقفه بمنطق الأمر الداعي إلى لزوم الخضوع لمقتضيات التاريخ الجديد والعالم الجديد، الذي يتجه لإقامته على أنقاض ما يرى أنه يهدد مصالح أميركا. إنه يثمن الإصلاحات السياسية التي بدأت في مصر بإعلان تعديل الفصل (76) من الدستور المصري، ويدعو مصر لتكون رائدة في مجال الإصلاح الديمقراطي، بالصورة التي تعادل ريادتها في باب الاعتراف بإسرائيل. ويعلن تقديره للانتخابات البلدية في السعودية، مطالباً بتوسيعها عن طريق السماح للنساء أيضاً بالانخراط في العمل السياسي. وهو يرى كذلك في التعديلات التي أجريت على مدونة الأحوال الشخصية في المغرب تعزيزاً لآليات الإصلاح الديمقراطي الجارية.. كما يدعو إلى الإصلاح التربوي وتغيير المناهج التربوية.

وتتميماً للمواقف والتموقعات السياسية المذكورة يطالب لتخصيص ميزانية معنية لدعم كل المشاريع الرامية إلى تعميم المشروع الديمقراطي في العالم العربي، وذلك بهدف اسناد مشاريع مماثلة لما سبق في كل من اليمن والأردن والبحرين.

نحن لا نتصور أن هذه الأساليب الكاشفة عن درجات عليا من التدخل في شؤون العالم، يمكن أن تساهم فعلاً في غرس قيم الحرية والتحرر والإصلاح في المجتمعات والدول التي يتم التحرش بها، فقد تساهم فعلاً في خلق ديناميات التغيير القسري العنيف، لكنها لن تؤدي بالضرورة إلى بلوغ مطلب الانتقال السياسي الديمقراطي فيها.

تضمر المواقف والتصورات الأميركية في موضوع الحرية والديمقراطية كثيراً من التصورات والسلوكيات المتضاربة، وهي تتجه لتعميم نظام صوري للحريات والحقوق لا علاقة له بمنطق ونظام الواقع. إنها تنطلق من مبدأ النظر إلى الديمقراطية باعتبارها مجرد وصفة سياسية قابلة للنسخ والاستعارة، حتى عندما تغيب أو تُغيب الشروط التاريخية والنظرية الدنيا المساعدة على إمكانية حصولها.

وإذا كنا نؤمن بأن المشروع السياسي الديمقراطي ليس بنية نظرية سياسية مغلقة، أدركنا المتاهات السياسية الجديدة التي تفرض اليوم على دول وأنظمة سياسية لم تستوعب آليات النظر إلى المجال السياسي، باعتباره فضاء للتعاقد والتوافق باللغة الوضعية والوسائل التاريخية.

ان الديمقراطية في تصورنا عبارة عن مسلسل في التحرير، لا يوفر فقط الضمانات التي تقي المجتمع من شرور الاستبداد والأنظمة الشمولية، بل يوفر قبل ذلك وبعده الشروط المناسبة لتدبير الاختلاف داخل المجتمع، وفي غياب شروط الحرية لا يمكن تصور كيفية بلوغ عتبة الديمقراطية.

ليست الديمقراطية مجرد أفق لتدبير آلية توزيع المكاسب، بما فيها توزيع المشروعية السياسية والتاريخية في الحكم من طرف الغزاة، رغم حصول هذا في التاريخ. إنها في تصورنا أفق لترتيب وتدبير الحقوق، وعلى رأس هذا الحقوق يمكن أن نذكر أولاً الحق في وطن حر تسود فيه المساواة، وتحكمه قوانين متوافق في شأنها بالجدل والحوار، وأساليب الإقناع التي بنتها الإنسانية خلال تاريخ بنائها لأنظمة الحكم ووسائله المعروفة في التاريخ.

يمكن أن نضيف إلى ذلك، أن الممارسة الديمقراطية لا يمكن أن تختزل بكثير من العنف الرمزي في صناديق انتخاب مُعدة في لحظة اندفاع تاريخي مهووس بإرادة في الهيمنة المطلقة على العالم.. إنها سيرورة تاريخية مركبة ومعقدة. ولعل أقصى ما يمكن أن تولده الديمقراطيات المفروضة بحد السلاح، حيث تحرس الصناديق الانتخابية بالبنادق، وتتطاير أشلاء الضحايا على أبواب مقرات الانتخاب، هو مجموعة من المفارقات التي لا تساعد على رفع صور الاستبداد التي كانت قائمة في زمن حكم صدام حسين، إنها تستبدلها بالعبودية الجديدة، والاستبداد المقنع، الذي لا يخجل من تكرار دعاويه المتعلقة بنشر الحرية والديمقراطية.

وإذا كانت الظاهرة الاستعمارية قد رسمت خرائط جديدة في العالم الإسلامي والمشرق العربي في نهاية القرن التاسع عشر، وساهمت في تبلور مرجعية فكرية جديدة في تاريخنا المعاصر، فإن التفاعلات التي تترتب عن المرحلة المذكورة هي التي ساهمت في تركيب أوضاعنا الراهنة، حيث ما يزال مشروع الإصلاح السياسي الديمقراطي ضمن الأولويات المطروحة في جدول أعمال النخب السياسية سواء التي تأخذ بزمام السلطة السياسية أو التي تتجه لمعارضتها وبلورة مشاريع معينة في إصلاح أوجه التأخر والفساد والاستبداد في السائدة داخل مجتمعاتنا.

ان عودة الاستعمار إلى الجغرافية العربية بعد أكثر نصف قرن على استقلال أغلب البلدان العربية، يضاعف من إشكالات وجودنــا التاريخي، ويساهم في مزيد مـــن تـوسيع الفجوة القائمة بيننا وبين تملك مكاسب الأزمنة المعاصرة، لهذا السبب نحن نعتبر أن انتخابات الأصابع البنفسجية التي استعملت بكثير من الحقد من طرف كل الذين تغنوا بأمجاد الحرية في أرض الرافدين، مغفلين أن المشروع السياسي الديمقراطي، يقتضي أولاً وقبل كل شيء وطناً يسع الجميع خارج لغة الألوان الساخرة، والاثنيات المستعادة بهدف مزيد من تفكيك الجغرافية المستهدفة داخل إطار لا علاقة لــه بالديمقراطية أبداً.