الانتخابات العراقية.. مؤشرات ما وراء الواقع

TT

لا شك أن الانتخابات العراقية التي جرت في 30 من يناير (كانون الثاني) الماضي، قد خلقت واقعا على مجمل الحياة السياسية في العراق والمنطقة، لا يمكن تجاوزه أو القفز فوقه. ومن الضروري أن تتم مراجعة المواقف والأساليب التي يتم بها معالجة الموقف في العراق، سواء من الأطراف المحلية بكل أطيافها والأقليمية والدولية أيضا.

هذه الملايين التي زحفت لصناديق الاقتراع في مجموعات بأبهج حٌلة ومظهر وبالأهازيج الشعبية، وصوتت لمستقبل جديد تريده، صوتت أيضاً ضد هذا النهج السائد الآن في وطن مستباح، فاقد للسيادة يسرح ويمرح فيه الإرهاب، وثمن الانسان فيه 200 دولار، تدفعها قوى الإرهاب لمن يأتي برأس بريء، هذه الملايين التي صوتت لنهج جديد لن تقبل أن يستمر النهج القائم منذ سقوط النظام ولحد الآن، وقد تبين هذا في الاعتصام، الذي أعقب انفجار الحلة الذي لا يقبل أن يتفرق، إلاً بعد أن يتم تسليم مقاليد السلطة لحكومة منتخبة صوتت لها هذه الملايين، وقالت نعم لنهج جديد يحكمه القانون، هذا الوضع يمكن أن ينتقل لمناطق اُخرى في العراق إذا استمر هذا التجاذب السياسي، الذي تنعدم فيه الرؤية للمواطن المسحوق والفقير، الذي يريد أن يعيش آمنا مستقراً، وأتمنى ألا تتهم الاستهانة بقدرة هذا الفقير، الذي لا يخشى من شيء، لأنه لا يملك اي شيء، على التغيير، فهو ليس أقل من جماهير أوكرانيا أو بيروت، وهذه رسالة واضحة للحكومة المنتهية ولايتها.

فعلى الصعيد المحلي شكلت الانتخابات صعقة لوهم كبير كانت الأطراف الداعمة لأعمال ما يسمى بالمقاومة تتداوله، وهو أن الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي تؤيد هذا النهج وتدعمه، وحيث اننا لا نختلف على أن من حق كل شعب احتلت أرضه أن يقاوم، وهذا حق مشروع ومثبت دولياً، لكن المعضلة نشأت عندما فلت زمام المقاومة، التي أرادها البعض أن تكون شريفة، ووُضع لجامها بيد الصداميين وقوى الإرهاب الدولي، التي باتت ترسل كتائب الموت للعراق، بعد أن تدربهم وتمولهم، ليس لمقاومة المحتل بل لقتل العراقيين بطريقة لا يمكن تصور مدى بشاعتها وساديتها، وتلاشى الفعل المقاوم لصالح القتل والتفخيخ للأبرياء. وقد بين الانفجار الأخير في الحلة قسوة وحقد هذه المجموعات على العراقيين، فتناثرت الأشلاء بطريقة مرعبة. لذلك بدأت مجموعات متعقلة تعي وتدرك بأن هذا العبث يجب أن يكون له حد، وبدأت تتكلم عن الأثمان لوقفه، وهذا بالتأكيد منطق مرفوض، لأن من له حق لا يطلبه بضغط قطع الرؤوس، لأن ذلك منطق من ليس له حق.

وقد أفرزت الانتخابات أيضا واقعاً على بعض المجموعات والقوى السياسية، التي تراجعت تحت ضغط التهديدات عن المشاركة في العملية الانتخابية، وتبين أن امتدادها على الأرض أقل بكثير مما كان يتصور، على الرغم من وجود قيادات وكفاءات ممتازة وحكيمة لديها، ويمكن لها أن تكون لاعبا لا يمكن تجاهله. وتحديداً وإجمالاً، فإن غياب المرجعية السياسية للسنة العرب، وغياب شخصيات متوافق عليها، قد خلق أزمة لكل الأطراف. فالطرف السني يحاول أن يبلور موقفاً سياسيا ويفرز وجوها متوافقا عليها، وهذا شيء ايجابي تشجعه عليه بقية الأطراف، وهذا ما سيفرزه مؤتمر أهل السنة والجماعة، وإن كان فيه مشكلة فنية، وهو تأخره وبعد نتائجه عن الاستحقاقات الآنية، التي قد لا تنتظر نتائجه، لكن سيتم الرجوع اليها في المفاصل والمحطات التالية من كتابة الدستور والاستحقاق الانتخابي التالي. أما الطرف الشيعي فيشعر بأنه مسؤول شرعا وعرفا وقانونا في الدفاع، عمن لم تسمح ظروفه بالذهاب لصناديق الاقتراع، أو قاطع أو كان له موقف من الانتخابات، خصوصاً بعد أن وجه المرجع الأعلى السيد علي السيستاني بمعاملة حقوق السنة العرب بنفس معاملة الشيعة، وعدم إبرام أي صفقات سياسية تحت أي ظرف، بما ينتقص من حقوقهم، وهذا موقف يسجل للرجل، لكنه لن يعوض غيابهم الدائم، فهو وقتي وخلقته الظروف الحالية، ولذلك يرى الشيعة أنهم يشجعون السنة على بلورة مواقف واضحة ووطنية من خلال قيادات مقبولة في الشارع السني، وأن تكون هناك مرجعية سياسية واضحة، لكي يتم التعاون معها في قضايا مصيرية، لا يمكن تغييب أي طرف فيها، لأن ذلك يخلق وضعا حرجاً ويرجع العراق لعهود التسلط والتهميش، وهذا ليس مطلب الشيعة بالتأكيد. أما الطرف الكردي، فعلى الرغم من أنه سني في هويته الفرعية من ناحية الدين، الا انه لم يلاحظ اهتمامه بالمساعدة في أن يبلور السنة العرب مرجعية سياسية، ويرجع جزء من ذلك الى أنهم لا يزالون يحمًلون السنة وزر الابادة الجماعية، التي تعرضوا لها، وهذا خطأ من الضروري تداركه.

أما على الصعيد الأقليمي، فلا شك أن نجاح العملية السياسية، سيخلق ضغوطا على الأنظمة التي لا تزال تعتقد بأن شعوب المنطقة لا تزال في طور الطفولة الديمقراطية، ولم تبلغ الرشد ليتكرموا عليها بالانتخابات وممارسة العملية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وهذا وهم يتستر بورقة توت، فضحتها هذه الملايين من العراقيين، التي تحدت رعب الإرهاب والسيارات المفخخة، وأثبتت نضجا سياسيا لافتا، في بلد من أشد بلدان العالم ممارسة للديكتاتورية وتغييب الرأي الآخر، ومن هنا فهذه الانتخابات ستساهم في زعزعة أركان الاستفراد والحكم الفردي، الذي يجدد كل دورة رئاسية.

أما على الصعيد الدولي، فإن هذه الانتخابات قد خلقت شرعية قوية يمكن استثمارها بشكل فاعل ومؤثر في أن يمسك العراقيون زمام الأمر كاملا بأيديهم، وخصوصاً الملف الأمني، الذي لا تطاله أيديهم في سلطة اتخاذ القرار الآن، وتوجيه الأجندة الوطنية بما يضمن أمناً للمواطن يطمئن فيه على حياته وماله، وكذلك موضوع السيادة التي فقدها العراقيون في خيمة صفوان الشهيرة عام 1991، وتلاحقت تداعياتها وفصولها، وكذلك سيطرتهم على الموارد والأموال وصرفها وتوجيهها، وكثير من القضايا ذات الشجون. هذه الشرعية يمكن توظيفها أيضا في أن يتجه العراق نحو توفير الحياة الكريمة لمواطنيه، خصوصا مع توفر الثروات في بلد غني، حتى لا يكون العراق أقلً من بلدان الخليج، التي خطت بمواطنيها نحو حياة آمنة مستقرة.

* كاتب عراقي