جردة حساب لعوائد الوجود السوري في لبنان

TT

إذا جاز الابتعاد عن فضاء الشعارات والاعتبارات الآيديولوجية التي استخدمت خلال العقود الثلاثة الماضية في معرض تبرير أو معارضة الوجود العسكري السوري في لبنان، يمكن القول إن دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 جاء في سياق الاندفاعة التي حققتها سورية بعد عام 1970 على صعيد تكريس دورها الإقليمي كطرف فاعل في توجيه مسار الأحداث الكبرى في الشرق الأوسط، بعد عقود طويلة أعقبت مرحلة الاستقلال السياسي لدول المنطقة، وشغلت سورية خلالها موقع الغنيمة التي تتصارع القوى الإقليمية الكبرى على الفوز بها أو الهيمنة عليها. وإذا صح ما كتبه باتريك سيل مرة بأن أحد الإنجازات الكبرى للرئيس الراحل حافظ الأسد، يتمثل في نجاحه بإخراج سورية من موقع اللعبة، والانتقال بها إلى موقع اللاعب في منطقة الشرق الأوسط، فلا شك أن قرار دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 كان يمثل إحدى البوابات الرئيسية التي أتاحت للرئيس الأسد الأب تحقيق تلك النقلة. ورغم المتاعب والإرباكات والتحديات الكثيرة التي واجهها نظام الرئيس حافظ الأسد على أكثر من صعيد داخلي وإقليمي ودولي، نتيجة قراره بإرسال القوات السورية إلى لبنان، يمكن الجزم الآن بأن حزمة المكاسب السياسية والاستراتيجية التي حققها النظام من جراء وجود القوات السورية في لبنان، على مدى العقود الثلاثة الماضية، كانت جديرة بقبول تحمل التبعات المترتبة على كل تلك المتاعب والتحديات. ومن بين تلك المكاسب يمكن الإشارة بشكل خاص إلى حقيقة أن الوجود السوري في لبنان ساعد على تثبيت حالة الاستقرار الداخلي الذي حققه النظام في سورية خلال عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، حيث أسهم هذا الوجود في توفير إحدى نقاط الارتكاز الرئيسية التي استندت إليها القيادة السورية، في تأمين حماية نظامها، وتسهيل مهمة أجهزتها الأمنية في مطاردة مشاريع القوى المعارضة، ومنعها من استخدام الساحة اللبنانية التي وفرت طوال مرحلة ما بعد الاستقلال «ممرا ومستقرا» للكثير من القوى والتيارات والشخصيات السياسية السورية، التي كانت تقف في معارضة الأنظمة الحاكمة في دمشق، والتي كانت تجد في لبنان على الدوام ملاذا آمنا ومركزا مريحا لإدارة خططها الهادفة إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة، والوثوب إلى السلطة في دمشق.

وعلى الصعيد الإقليمي كان الوجود السوري في لبنان قاعدة انطلاق لبناء الدور الإقليمي الذي صنعته سورية لنفسها على مدى العقود الماضية، والذي تمكنت عبره من فرض نفسها على مراكز صنع القرار الخاص بمنطقة الشرق الأوسط، في مختلف العواصم الدولية والإقليمية المعنية بأمور المنطقة، كرقم صعب لا يمكن تجاهل مصالحه الاستراتيجية في مختلف القضايا المتعلقة بمستقبل المنطقة، ولا سيما القضايا المتصلة بقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي وتفرعاتها التي تمتد في أكثر من اتجاه إقليمي ودولي.

وبعد كل تلك السنوات الطويلة تتكشف الأزمة التي تواجهها سورية في لبنان حاليا، عن حقيقة أن المتغيرات العاصفة التي جرت خلال العقود الماضية على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والدولية، أدت إلى تغير الأوضاع في سورية ولبنان في آن معا، وتبدل أوضاع المنطقة والعالم بشكل عام، وتغيرت بالتالي جملة الموازين والمعادلات التي أتاحت استمرار الوجود السوري في لبنان طوال الحقبة الماضية.

وتشمل تلك المتغيرات بشكل خاص التحول الذي طرأ على تركيبة السلطة في سورية إبان وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد، وانتقال منصب الرئاسة إلى نجله الرئيس بشار الأسد، وتزامن هذا التحول مع جملة المنعطفات الكبيرة التي دخلتها المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والاحتلال الأميركي للعراق، والمتغيرات التي طرأت على وضع القضية الفلسطينية بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات، وانتقال السلطة إلى الرئيس الجديد محمود عباس، الذي أعاد إطلاق مسيرة عملية تفاوضية تهدف إلى ترتيب اتفاق نهائي مع إسرائيل يسدل الستار على قضية الصراع على الجبهة الفلسطينية، بدون ارتباط يذكر بما يحدث على المسارات التفاوضية الأخرى.

وفي ظل هذه التشابكات جاء تصاعد حملة الضغط على سورية عبر خاصرتها اللبنانية، لتكشف عن حقيقة الانقلاب الذي طرأ على وظيفة الوجود السوري في لبنان، نتيجة المتغيرات المذكورة، حيث بات مطلوبا من سورية أن تتعاون مع المخططات الأميركية في العراق، وأن تستخدم نفوذها لدى فصائل المعارضة الفلسطينية من أجل تسهيل مهمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وأن تتولى مهمة نزع سلاح حزب الله، وضبط الأوضاع الأمنية داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان، مقابل تخفيف الضغوط التي تتعرض لها داخل الساحة اللبنانية، وهو ما يعني عمليا أنه بعد مرور ثلاثة عقود على دخول القوات السورية إلى لبنان، وهي الخطوة التي شكلت قاعدة الارتكاز الرئيسية لبناء الدور المحوري الذي لعبته سورية على المستوى الإقليمي، وصلت سورية إلى المنعطف الذي صار عليها فيه أن تضحي بدورها الإقليمي وأوراقها التفاوضية، من أجل ضمان استمرار وجودها في لبنان، مع ملاحظة أن حركة المتغيرات المشار إليها أدت إلى تعطيل المفاعيل العملية لهذا الوجود، وخصوصا لجهة الحفاظ على وجود جبهة مشتعلة تضمن بقاء قضية المسارين السوري واللبناني في واجهة اهتمام العواصم المعنية بترتيب أولويات أجندة المفاوضات الخاصة بمسارات العملية السلمية، حيث أصبح الدور المنوط بدمشق في لبنان هو السهر على وقف عمليات المقاومة عبر الحدود اللبنانية، بدل توظيف تلك العمليات واستثمارها كورقة رابحة في يد المفاوض السوري. وعلى أساس ما تقدم يمكن القول إن حادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقبلها صدور القرار الدولي 1559، أدت إلى إخراج المسألة اللبنانية من قشرتها المحلية، وطرحها على رأس أجندة اهتمامات العواصم الدولية والأطراف الإقليمية المعنية بأمور المنطقة، ولكن قبل ذلك بمدة طويلة كانت حركة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية التي عصفت بأوضاع المنطقة، قد قوضت مبررات استمرار الوجود السوري في لبنان، حيث أصبحت خسائر هذا الوجود وأضراره تفوق عوائده وأرباحه في حسابات السياسة، التي يجب أن تستبعد عنها حسبة المصالح المالية والشخصية لحفنة من الشخصيات، التي يمكن أن تكون قد بنت لنفسها شبكة واسعة من المصالح المتبادلة على هامش الأخطاء والخطايا التي واكبت مرحلة الوجود العسكري السوري في لبنان خلال السنين السابقة، والتي يخشى أن تكون قد لعبت دورا محوريا في إطالة أمد الوجود السوري في لبنان، من أجل تأمين استمرار مصالحها الشخصية، رغم كل المؤشرات التي كانت تدل على أن ذلك الوجود فقد كل مبرراته من الناحية السياسية.

ومن هذه الزاوية يمكن القول أن القرار الذي أعلنه الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير أمام مجلس الشعب السوري ومن بعده المجلس الأعلى السوري ـ اللبناني في اجتماعه بدمشق، بشأن انسحاب القوات السورية من لبنان (على مرحلتين)، شكل إعلان بداية النهاية لحقبة في تاريخ العلاقات السورية ـ اللبنانية فقدت مرتكزات استمرارها في أرض الواقع، قبل أن يعلن الرئيس الأسد والمجلس الأعلى عن قلب صفحتها بصورة رسمية.

* [email protected]