حذار.. الفراغ اللبناني

TT

يوم يتحول الشأن السياسي إلى حدث تاريخي يفترض في «رجال الدولة» ـ أي دولة ـ الارتقاء الى مستوى هذا الحدث، والتعامل معه بأبعاد مستقبلية لا آنية فحسب.. فهل يعقل أن يستمر التعاطي الرسمي مع التحولات المتسارعة في لبنان بذهنية لعبة «الغالب والمغلوب» التقليدية، وعقلية انتزاع المكاسب حتى من المآسي؟

من هنا القلق من احتمال انفلات الأزمة اللبنانية من عقالها، إذا استمر لبنان الرسمي في اغفال البعد الواقعي لتظاهرات بيروت.. أي اختصارها بأيام معدودة، من سنوات النضال الاستقلالي الثاني بعد أن تعمد هذا النضال بدماء الرئيس رفيق الحريري.

في بيروت، وتيرة الحدث اليومي بدأت تسبق القرار الرسمي. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، قد يصبح اللحاق بالحدث أصعب من احتوائه، وإعادة الاوضاع إلى نصابها أكلف مما يجب.

بعد انقضاء أكثر من شهر على اغتيال الرئيس الحريري، لا يزال «رجال الدولة» غافلين عن تبعات تغييب مسؤول بحجمه وديناميت عن القرار اللبناني... وهي تبعات تستوجب، أول ما تستوجب، ملء الفراغ السياسي والاقتصادي، الذي خلفه الحريري ليس برئيس آخر للحكومة، كائنا ما كان حجمه، بل بمؤسسة حكومية ـ إدارية متجانسة، قادرة على تحقيق حلم الدولة، الذي بشر به الرئيس الشهيد. لم يعد المطلوب، بعد كل ما حدث محليا وإقليميا ودوليا منذ اغتيال الحريري، ابدال حكومة بحكومة، بل إبدال نظام حكم متعثر بنظام آخر أفضل تمثيلا لشعبه، وأكثر ديمقراطية في مؤسساته.

هذا لا يعني استسهال النقلة النوعية المطلوبة في النظام اللبناني، فمهمة إزالة آثار 30 عاما من الحكم الأمني ـ الاستخباراتي، مهمة أكثر تعقيدا مما يتصوره اللبنانيون في غمرة فرحتهم بالانسحاب السوري، خصوصا ان هذا الحكم يخلف شبكة شبه متكاملة من المصالح السورية ـ اللبنانية المترابطة، وطبقة واسعة من المستفيدين منها، بل وأحزابا جبرت «عقائديتها» لخدمة أجهزة المخابرات باسم العروبة والقومية، تحاول الآن ، مع بدء انسحاب «معلميها»، ان تتلظى بمظلة حزب المقاومة اللبنانية.

قد تكون الحاضنة الجاهزة لولادة لبنان الاستقلال الثاني وثيقة اتفاق الطائف، كونها لا تزال القاسم المشترك، الذي يجمع اللبنانيون عليه.

ولكن القبول باتفاق الطائف، لم يعد كافيا لبناء النظام اللبناني الجديد ـ وإن كان شرطا له ـ ما لم يقترن بالتزام جدي بتطبيق كامل بنوده. وفي هذا السياق، قد يكون البدء بتطبيق أكثر بنوده نسيانا، أي اقتراح تشكيل مجلس شيوخ يتساوى فيه التمثيل العددي للطوائف اللبنانية، الأكثر إلحاحا في الظروف الراهنة ـ ليس فقط لكونه مشروع مساواة دستورية بين اللبنانيين، كائنا ما كانت انتماءاتهم المذهبية، بل لكونه خطوة أولى، وخطوة عملية، على طريق إلغاء الطائفية السياسية في لبنان.

رياح التغيير تهب عاتية على لبنان، وما وحده العلم اللبناني في تظاهرات ساحتي الشهداء ورياض الصلح، يجب ألا يغيب مغزاه عن رؤية المشترع اللبناني للبنان المستقبل، لبنان المنبعث من ثلاثين سنة من «الوجود» السوري، وخمس وعشرين سنة من الانتداب الفرنسي، واربعمائة سنة من الاستعمار العثماني.

آن الأوان لكي ينجلي ليل لبنان الطويل.