لقمة الجزائر: ثقوا بأنفسكم.. واتفاق الطائف برهانكم العملي

TT

تنعقد في الجزائر، بعد ايام، (القمة العربية) الدورية او السنوية: تنعقد في مناخات وطنية واقليمية ودولية طافحة بالتحديات والمخاطر من كل نوع، وعلى كل مستوى.. وتنعقد القمة في ظل (حالة نفسية) مشبعة ومبرمجة بـ (التشكيك) في كل شيء عربي، وبـ (التيئيس) المطلق من كل تفكير عربي.. وجهد عربي.. ومستقبل عربي. وعماد (استراتيجية) التيئيس هذه، هو: منح الوصاية الاجنبية (شرعية) فكرية وسياسية وواقعية، بمعنى ان الرافض او الناقد لهذه الوصاية يمس ـ بمعيار هذه الاستراتيجية ـ: إما مجنون لا يحسن التفكير.. وإما غر لا يفهم السياسة.. وإما خيالي يشطح بعيدا عن الواقع.

من هنا، فإن مناخات التحديات والمخاطر.. واستراتيجية التشكيك والتيئيس، هذا كله يوجب مباشرة المعارض والضد والنقيض، اي يوجب على القمة العربية: أن تسكب في مخها وشرايينها وعظامها ومشاعرها واحاسيسها: جرعات مشبعة مروية من (الثقة بالنفس)، فليس يسقط فرد، أو دولة، أو أمة وهي واثقة بنفسها، وإنما يسقط الفرد والوطن والأمة بفقد الثقة بالذات.. وهذه ليست قاعدة تربوية فحسب، بل هي ـ كذلك ـ: قاعدة اجتماعية وسياسية وحضارية.

ولئن ركز الاعداء ـ والمسارعون فيهم من بني جلدتنا ـ على كل ما يوهن الثقة بالذات، وعلى كل ما يكفرها بماضيها وحاضرها ومستقبلها، فإن من أولويات مسؤولية القادة العرب (البحث الاستقرائي)، والتفتيش الموسع والمثابر عن كل ما يجدد الثقة بالذات، ويسكب فيها عزائم الاستعصاء على التشكيك والتيئيس والغاء الشخصية: المعنوية والمادية ولن يعدم القادة العرب ما يحقق ذلك.

ومن أقوى ما يجدد الثقة بالذات: (استحضار) ما فعلته الذات، وما أنجزته، وما حقق نجاحا ملموسا.

والنموذج المناسب ـ ها هنا ـ هو: وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي عرفت بـ (اتفاق الطائف).

فهذا الاتفاق: فكرة عربية.. وقصة عربية.. وسيناريو عربي. وصياغة عربية.. واخراج عربي.. على أرض عربية هي مدينة (الطائف) في المملكة العربية السعودية.

والتمثيل باتفاق الطائف له دواعيه الموضوعية، ومقتضياته الظرفية وهي:

1 ـ ابطال تهمة أو مقولة راهنة رائجة وهي: ان العرب لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا جادا وجماعيا ومثمرا.

2 ـ ان اتفاق الطائف هو الذي انقذ لبنان من حرب اهلية ضارية مدمرة، كان من المقدر أنها لو استمرت لأصبح لبنان مجرد (خبر تاريخي)، أو مجرد أطلال تنعى مجدها القديم.. ويبدو ان الزمان قد استدار كيوم كانت مناخات الحرب الاهلية، ندعو الله ان يقي اللبنانيين ولبنان: اعادتها وتكرارها.

3 ـ لا تزال ذكرى رجل لبنان الكبير رفيق الحريري تملأ الزمان والمكان. وللرجل انجازات شاهقة بلا ريب.. ومن اعظم والمع تلك الانجازات: اسهاماته العميقة، وجهاده السلمي الصدوق في تحقيق اتفاق الطائف.

4 ـ ان اتفاق الطائف: وثيقة نظرية وتطبيقية ناطقة بـ (نجاح الجهد العربي المشترك).

وللتدليل على هذا الجهد العربي المشترك، ينبغي ان نقرأ ـ بتدبر وانصاف ـ : محاور أساسية في هذا الاتفاق.. ومن هذه المحاور:

أ ـ «لبنان وطن سيد حر مستقل، وطن لجميع ابنائه، وطن واحد: أرضا وشعبا ومؤسسات في حدوده المنصوص عليها في الدستور اللبناني، والمعترف بها دوليا».

ب ـ «لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم بمواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم بمواثيقها».

ج ـ «لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمييز او تفضيل».

د ـ «الغاء الطائفية السياسية: هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة هي: دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية وتقديمها الى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.. ويتم في المرحلة الانتقالية 1 ـ «الغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية.. الخ.

2 ـ الغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية».

هـ ـ «اعادة النظر في التقسيم الاداري بما يؤمن الانصهار الوطني ضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الارض والشعب والمؤسسات».

و ـ «اعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتي التاريخ والتربية الوطنية».

ز ـ «اعادة تنظيم جميع وسائل الاعلام في ظل القانون وفي اطار الحرية المسؤولة بما يخدم التوجهات الوفاقية وانهاء حالة الحرب».

ح ـ «حيث ان هدف الدولة اللبنانية هو بسط سلطتها على كامل الاراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية المتمثلة بالدرجة الاولى بقوى الأمن الداخلي، ومن واقع العلاقات الاخوية التي تربط سوريا بلبنان، تقوم القوات السورية مشكورة بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية لبسط سلطة الدولة اللبنانية في فترة زمنية محددة اقصاها سنتان تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني، وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، واقرار الاصلاحات السياسية بصورة دستورية. وفي نهاية هذه الفترة تقرر الحكومتان، الحكومة السورية وحكومة الوفاق الوطني اللبنانية اعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي في ظهر البيدر حتى خط حمانا المديرج عين داره. واذا دعت الضرورة في نقاط أخرى يتم تحديدها بواسطة لجنة عسكرية لبنانية سورية مشتركة، كما يتم اتفاق بين الحكومتين يجري بموجبه تحديد حجم ومدة وجود القوات السورية في المناطق المذكورة اعلاه وتحديد علاقة هذه القوات مع سلطات الدولة اللبنانية في اماكن وجودها، واللجنة الثلاثية العربية لمساعدة الدولتين في الوصول الى هذا الاتفاق اذا رغبتا في ذلك».

ط ـ «ان لبنان الذي هو عربي الانتماء تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميزة مستمدة قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الاخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسده اتفاقات بينهما في شتى المجالات بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في اطار سيادة واستقلال كل منهما.. واستنادا الى ذلك فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا، وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الاحوال».

ك ـ «العمل على تنفيذ سائر القرارات الدولية القاضية بازالة الاحتلال الاسرائيلي ازالة شاملة، واتخاذ كافة الاجراءات لتحرير جميع الاراضي اللبنانية».

هذا جهد عربي اصيل ومشترك وراق ومتحضر وعقلاني وعملي، ومما لا ريب فيه: ان اتفاق الطائف: أرشد وأدق وأعدل وأوسع وأكثر أمنا وسلاما وواقعية من القرار 1559.

واذا كان اللبنانيون قد انقسموا ازاء هذا القرار فإنهم مجمعون على اتفاق الطائف، فالمعارضة تطالب بانفاذ اتفاق الطائف، والموالاة تطالب بتطبيقه كذلك. ولقد لخصت النائبة بهية الحريري هذا الاجماع بقولها: «ان هذا الاتفاق الذي يجمع عليه اللبنانيون اليوم، لن نتنازل عن أي حرف فيه، وسنعيد الاعتبار والمهابة الى بنوده. وسنعلن عن لجنة متابعة وطنية لتطبيق اتفاق الطائف تمثل جميع اللبنانيين لتتحول هذه الوثيقة مجددا، من شعار نرفعه في المناسبات الى حقيقة واقعة. واننا لن نعود الى نقطة الصفر التي يراد لنا ان نعود اليها، فإن الحوار قد تم، وان وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) أصبحت دستورا، وان عملنا الآن هو البحث في كيفية تنفيذ ما اتفقنا عليه، وليس البحث عن اتفاق جديد».

ما معنى هذا؟

معناه: ان التفكير السياسي العربي يمكن ان يبدع، وان العرب يمكن ان ينتجوا حلولا مثمرة وجماعية لمعضلات معقدة، بل دامية. ومعناه: انه من المستطاع: ان ينفذ العرب ما اتفقوا عليه قبلا، أو ان يتمّوا ما بدأوه وهو اتفاق الطائف ابتغاء اخراج سوريا ولبنان مما هما فيه من كرب.

ومعناه: ان اتفاق الطائف نموذج يمكن القياس عليه بابداع حلول عربية جديدة لمشكلات اخرى.

وبالخيارين: خيار تتميم ما بدأ، وخيار اختراع جديد غض: تتجدد الثقة بالذات، وهو تجديد يتبوأ رقم (1) في أجندة الاولويات.