بلد أم بلدان ؟ مفاوضات التأسيس العراقي الجديد

TT

عدنا من حفل مهيب في ذكرى كارثة العصر حلبجة. نقول كارثة لربما هي المدينة الأولى في تاريخ المنطقة، إن لم يكن في تاريخ البشرية، تفنى بسلاح الغاز، وتتداخل فيها أبدان الآباء والأبناء متحاضنة إلى الأبد، طفل جمد على صدر أمه، وأب جمد متكوراً فوق أبدان أطفاله. شاهدتها بعد عشر سنوات وما زال غبار الموت يكسو شجرها وحجرها، ولم تنفذ منها رائحته. حضر الذكرى بلندن الطيف العراقي كافة كالعادة، وفي مقدمتهم سفير العراق ببريطانيا، الدكتور صلاح الشيخلي. قدمه رئيس الجلسة بعبارة السفير العراقي، ثم استدرك بالقول: عفواً سفير جمهورية العراق الفيدرالية.

لكن العلم المرفوع في زاوية منصة الحفل كان علم القومية الكردية، ولا أثر للعراق غير وجود سفيره على المنصة. ومَنْ لا يعرف جغرافية حلبجة من الأجانب والعرب، لا يدله العلم عن مكان الكارثة من بلدان المنطقة، هل حصلت في العراق أم تركيا أم إيران أم سوريا؟ وهناك مَنْ يعذر مواطنينا الكرد من أنه، كما نحن، لا نتشرف بخفقة علم صممه صدام حسين، وخفق فوق رؤوس الأموات بحلبجة. وحاشا عبارة «الله أكبر» المنقوشة عليه بيد صدام. لكن لماذا لا يُرفع الشعار العراقي في صدر القاعة؟ وقد تبناه السيدان مسعود البارزاني وجلال الطالباني، وكل أعضاء مجلس الحكم السابق، وهو شعار الجمهورية العراقية الأول، صممه الفنان جواد سليم، مستخدماً فيه شعار شمش السومري ونجمة عشتار، وللكردستان حصة فيه.

قال أحد الخطباء في الحفل: إما الحقوق كاملة وإما الاستقلال بدولة كردية، يُعز فيها الكرد. دوّت عاصفة من التصفيق في القاعة، واضطر السفير العراقي إلى مجاراة الأجواء بالتصفيق، مع ابتسامة خفيفة بانت على محياه. فسرها في ما بعد برده على سؤال حول حقوق الكرد في العراق الجديد. قال ما ترجمته ـ كانت لغتا الحفل بالكردية والإنكليزية مع ترحيب بالعربية ـ الكرد يأخذون حقوقهم ببغداد، فلا أحد يأتيهم بها. وذكر الحفل بالشراكة في الوطن الواحد، عبر تحمل المسؤوليات في تاريخ الدولة العراقية، والزواج المتبادل، وبالشراكة بالعذاب أيضاً . فحلبجة والأنفال في الشمال والدجيل والمقابر الجماعية في بقية أجزاء العراق. لكن جملة الخطيب «وإما الاستقلال» بدت إشارة للتهديد أكثر منها إشارة إلى أنها آخر الحلول. وهنا تصرف الكرد وكأنهم ما يزالون معارضة للسلطة، وليسوا دولة وحكومة ببغداد. وهذا ما سمعناه في كلمة الاستقبال من مسؤول كبير في الحزب الديمقراطي الكردستاني بفيشخابور (أكتوبر 2000) عندما احتفل الكرد قبل العرب بمئوية محمد مهدي الجواهري. أذكر ما أخبرني به إبراهيم أحمد، وهو شيخ من شيوخ النضال القومي الكردي، في مقابلة معه ببيته بلندن (1996). قال: «إن البريطانيين وافقوا للشيخ الحفيد أن يكون ملكاً بالسليمانية وتوابعها، كخطوة لإقامة دولة كردية. لكنهم قالوا له: أن يسمع ويطيع توجيهات المندوب السامي البريطاني، الذي سيُعين معه. قضى الشيخ الحفيد الليل يقلب الأمر يمنة ويسرى، حتى توصل إلى رأي أبلغ به البريطانيين صباحاً. قال لهم: «ما رأيكم لو يكون المندوب السامي ملكاً، وأنا أكون مندوباً سامياً» ؟

لم يكن الشيخ الحفيد ساذجاً، ولم يكن البريطانيون جادين باقتراحهم. فالشيخ يريد دولة لا وكالة تبتلعها تركيا أو إيران بعد أيام. بينما أراد البريطانيون إمارة أكبر بشكلها العثماني، عاصمتها بغداد، كانت تدار منها شهرزور وكل كردستان. لكن الأمور جرت مجرى آخر وتأسست دولة، وفكت عرى الوصاية البريطانية في الثلاثينيات، وبدأت تتحكم بالاتفاقيات. جددت كردستان العراق كافة علاقاتها بهذا الكيان الكبير بشرط منح الحقوق القومية غير منقوصة.

قلنا ليس لأحد منع الكرد من العمل من أجل قيام دولة كردية، لكن هناك زمناً طويلاً من التعايش بين العراقيين، والكرد منهم، يخطأ مَنْ يعده بثلاثة وثمانين عاماً، هو عمر الدولة العراقية الحديثة. وعلى مستوى العاطفة الشخصية نشعر باكتئاب كلما تردد فصل كردستان عن العراق، وابتعاد أشقاء لنا في الوطن الواحد. وهذا ما يؤجج فينا كراهية الدولة القومية التي أدت إلى مثل هذا الشعور. والعراق كما قال عنه فيصل الأول: «ليس فيه سوى أمر واحد هو أن يُقال عراقيون فقط». فلو تحقق هذا، وثبتت الحقوق في دستور، لأصبح الحديث عن حق كردي وآخر عربي حديث خرافة يا أم عمرو. وما حصل أن طعن الفكر القومي العربي المتعصب، الذي تحكم بالعراق طويلاً ومارس التعريب والتهجير، الوحدة العراقية بالصميم. وعلى الرغم من ذلك لم يحصل بين العراقيين، كرداً وعرباً، من رفض موظف عربي في منطقة كردية، أو كردي في منطقة عربية. فلم يكره العراقيون أن يكون الكردي سعيد قزاز وزيراً للداخلية. ومن أعمال هذا الوزير أنه كان يقوي عرى الوحدة العراقية بتعيين ابن الجنوب بالشمال وبالعكس. وآخر رئيس وزراء عراقي هو الكردي مختار بابان، وكان من الرؤساء المميزين في ذاكرة العراقيين. ولم يتذمر عربي أو أي عراقي آخر من وجود قادة كبار في الجيش العراقي بمستوى رئاسة أركان الجيش وقادة الفرق. وعلى صعيد آخر تولى الكردي عزيز محمد قيادة الحزب الشيوعي العراقي لأكثر من ثلاثين عاماً من دون اعتراض.

هناك مَنْ يطرح أن التلازم بين العراق وكردستانه بدأ حديثاً لا يرقى إلى أقدم من تأسيس الدولة الحديثة، كحجة دامغة على إمكانية التفرد بدولة كردية. وهنا ليس بالضرورة أن يكون التاريخ وراء تجزئة أو إتحاد الشعوب. وهل يطلب من شعب ما الصبر على الضيم والحيف القومي مجاملة للتاريخ ؟ لكن تاريخ الاندماج العراقي الجغرافي والاجتماعي يشير إلى غير ذلك. وهنا أمامنا شهادة شاهد عيان سبقت تأسيس الدولة العراقية بحوالي مائتي عام، سجلها مَنْ كان بعيداً عن غرض اتحاد أو انفصال.

جاء في تقرير القس باييه عمانوئيل، الفرنسي الأصل، الذي أوفدته البابوية بروما إلى العراق العام 1728، التالي: «تعتبر بغداد من المدن الشهيرة جداً، إذ كانت عاصمة دولة. أما الآن فهي ولاية خاضعة للسلطنة العثمانية. وهي واسعة جداً إذ تشمل مناطق عديدة هي كلدة وما بين النهرين، وقسماً من البادية العربية، وتمتد حدودها إلى بلاد فارس وإلى ديار بكر شمالاً، وتشمل منطقة مادي شرقاً، وهي المعرفة بكردستان» (مُترجم، مجلة بين النهرين العدد 43/1983). قد لا تعني الإشارة التاريخية شيئاً في وحدة المواطنة بين العراقيين، فهي ليست أكثر قوة من ذكريات التعايش، من التزاوج إلى التجاور في المدن والمحلات. وهل سيطالب الكرد ببغداد والموصل بدولة أيضاً، أم سيتركون مرابع الطفولة والصبا وأثر الأجداد ويلتحقون بالدولة الجديدة ؟ وما يجمع العراقيين في المنافي والمدن أكثر مما تجمعهم القوميات. فهناك صداقات عامرة تمتد بين عراقيين كرد وتركمان وآشوريين من أهل كركوك، بدون أن ينصتوا إلى ضجيج الحق التركماني أو الكردي أو الآشوري بمدينتهم.

يرى أغلب العراقيين أن وجود الكرد ضمن الدولة العراقية دعامة متينة في تحقيق الديمقراطية. وأن إحقاق حقوقهم القومية ضمانة لتأسيس دولة جديدة، فارغة من القهر والتعصب. فوجود القائمة الكردية، في الانتخابات الأخيرة، بهذا الزخم أحبط نيات قيام دولة دينية، وسيحبط قرارات لا تتناسب مع الديمقراطية والمدنية. كذلك فان الكرد أنفسهم تواقون إلى دولة واسعة عامرة بالخير والحرية، وكلما اتسعت البلدان اتسعت الحريات فيها، وتحصنت من اطماع الجوار، بعد أن ضاقوا وضقنا معهم ذرعاً في الحرب المدمرة بين أربيل والسليمانية، رغم النهج الديمقراطي الذي نهجه حزباهما الرئيسيان، بل وتجرع أحد الطرفين المر وطلب العون من مسبب حلبجة والأنفال ، بعد طلب الطرف الآخر العون من طهران.

مازال الكرد العراقيون يتعاملون بردة فعل، وكأنهم يتفاوضون مع حكومة عراقية، وليسوا وزناً ثقيلاً في الحكومة. وبالتالي يتفاوضون كغرباء وليسوا من أهل العراق. فأُخذ يحسب عليهم أنهم يعدون للانفصال بعد التمكن. نتألم لهذا المنعطف الخطير أن يُصور التفاوض بين «قائمة الائتلاف» و«قائمة التحالف» أنه يجري بين بلدين لا في بلد واحد. والحقيقة أن الكرد الآن هم الجزء الأهم من الحكومة ومن المركز. إذا صحت نية الانفصال، وهذا خلاف ما يصرح به القادة الكرد أنفسهم، فالعراقيون جميعاً سيعيشون حالة أقل ما يقال عنها إنها حالة تشظٍ وموسمية بالمواطنة. فبعد الدولة الكردية، ستظهر الدولة العربية السُنيَّة، والدولة الشيعية، ودولة التركمان في الخط الفاصل بين كردستان وبقية العراق، وربما فكر الأيزيديون بدولة داخل كردستان، وهلُمَّ جرَّا.

* كاتب عراقي