العراق: التكنوقراط والعقلنة.. ودورهم في إدارة دولة الـقرن 21

TT

انتهت الانتخابات في العراق، والمحادثات مستمرة حول أفضل الطرق لإحداث التوافق المطلوب بين كل العراقيين في الحكومة المقبلة. ويعتبر هذا التوافق من الضرورات الأساسية لأن مهمة الحكومة المقبلة والمؤقتة هو صياغة دستور البلاد الدائم مما يتطلب حضور ممثلين عن جموع العراقيين بفئاته وطوائفه وأديانه. وما يتوجب في الحكومة المقبلة كذلك، هو الابتعاد عن الأساليب السياسية القديمة والتوجهات العصبية، (الموجودة كأسلوب للتعبئة السياسية عند النخب الحاكمة في المنطقة)، وإعطاء دور مهم للتكنوقراط في مستقبل الدولة للعراق الجديد.

دور التكنوقراط في ادارة الحكومات العصرية مهم، وان لم يكن أكبر من دور السياسيين. وأحيانا يكون السياسي تكنوقراطيا، ومثال ذلك غوردن براون وزير مالية بريطانيا (أستاذ جامعي سابق مع عدة كتب اقتصادية باسمه)، أو روبرت رايخ وزير العمل الأميركي السابق في الدورة الأولى من ادارة كلينتون. وتوجد أمثلة عديدة توضح أهمية طبقات التكنوقراط في بلدان اوروبية كألمانيا وفرنسا أو اليابان أو الهند. وما تعمله كوريا في تطبيقها الفاعل للتكنوقراط، تجعلها تعاني من نصف البيروقراطية الموجودة في بلدان عربية بحجمها.

والتكنوقراط هم الموظفون، كباراً أو صغاراً، وأصحاب القدرة والكفاءة في ادارة قائمة على المهنية والخبرة والكفاءة للدولة، مع تملكهم للوسائل، وإتاحة الفرص أمامهم للقيام بأعمالهم بفاعلية توافق متطلبات الدولة الحديثة.

والتقنية الرفيعة تعقد من طبيعة المجتمع، وتكون أحد الأسباب لإفراز ما يسمى بالمجتمع المدني، ذي تنظيمات مفصولة عن الحكومة (منظمات غير حكومية في المراقبة والمحاسبة وغير ذلك).

وتجعل التقنية المتطورة العالم في مجتمع الانسان المعاصر معلوماتياً، وربما بشكل أدق معرفياً (Knowledge Based World) وهذا يعني ان فعاليات الافراد والجماعات تقوم على المعلومات والأرقام والاحصاءات وغيرها من جانب، ومن جانب آخر، بسبب تعقيد المجتمع تأخذ طبيعة الأعمال صفة الخصوصية والمهنية. والاثنان، الأرقام أو المعلومات والخصوصية أو المهنية، هما ميزتا التكنوقراط في التعامل مع هذه الأمور والتجاوب معها، لأخذ القرارات المناسبة في الادارة السياسية الحديثة. وعملهم كاستشاريين أو خبراء لفترات قصيرة، قد ينجح في جوانب محدودة، خصوصاً في المناصب العليا، وليس في كل المجالات ما يتطلب من موظفين متخصصين، ولفترات عمل طويلة، تتعامل مع تعقيد شبكة مرافق الدولة العصرية. ولا أرغب في الخوض في تفاصيل الدولة الحديثة، دولة تقوم على القانون والدستور والمساواة التي تطبق على كل المواطنين، من ضمنهم افراد الحكومة، وهم الذين يستمدون شرعيتهم في العمل والحركة من الدستور والقانون. والأهم، يجب أن يكون هناك فصل بين العمل الاداري للدولة، وعمل الحكومات المتعاقبة والمتكونة من الحزب أو الأحزاب المؤتلفة والفائزة بالانتخابات، ومحاولة تطبيق مشاريعها المتبناة.

فالحكومة المنتخبة تمثل المجتمع وتعمل بالنيابة عنه، فيما تتم سيادة الحكومة المنتخبة من قبل أدوات الدولة كالشرطة وقوى الأمن، على سبيل المثال لا الحصر، التي توفرها لتثبيت ونشر سلطات الحكومة المنتخبة. وفي ظل الاحداث الدامية لجماعات ما تسمى بالمقاومة أو «الجهاد ضد اعداء الاسلام»?? ??????، وبأفعالها المعروفة ضد ارادة الأغلبية، تكون حيازة السلاح من اختصاص الدولة، أما الآخرون فليس لهم سوى الانخراط في العمل السياسي المدني، إذ لا وجود للمليشيات المسلحة ام المجاميع المتخندقة خلف المدفع والـ (آر بي جي) في دولة القانون والمؤسسات.

فعمل مرافق الدولة الحديثة، كما نرى في البلدان المتقدمة، قائم على المهنية والبرمجة والتنظيم، ميزات التكنوقراط، فضلاً على ان اجزاء كبيرة من تكوين الحكومات المتعاقبة، كمتطلبات ضرورية لعصر المعرفة، وتوافقاً مع مرافق الدولة، هم من طبقة التكنوقراط. وهنا يطرح سؤال مهم نفسه وهو: هل تستطيع الأحزاب العراقية القائمة، والتي كثر عددها بعد سقوط النظام المقبور، وهي التقليدية بتركيباتها، والقائمة على الولاء والفئوية الضيقة، أو قل إن قسما منها يتبني الشعارات، وليس البرامج العملية المحدودة، مماشاة المرحلة المقبلة؟

والجواب أن الواقع الجديد يفرض على الأحزاب والتجمعات السياسية العراقية الابتداء بتحويل تنظيماتها من الآن الى مؤسسات (ولو متواضعة، تدار من قبل فرق عمل وكوادر متخصصة أو تكنوقراط، وأن لا تكون أعمالها أو قراراتها قائمة علي افراد قلائل، أو أمزجة شخصية وما شابه ذلك. وهذا سيمكن من خلق ماكينات قرار، وإن كانت بسيطة، في صنع سياسات تعتمد دراسة عوامل، وأمور متغيرة ومختلفة وقريبة من الواقعين المحلي والعالمي.

والأهم من ذلك المباشرة في تأسيس الهندسة السياسية المفقودة في العراق والعالم العربي، بهدف أساسي هو خلق التركيبات أو الهياكل السياسية التي تتجاوب مع متغيرات الزمن والمرحلة، وتطوير العملية السياسية لضمان المشاركة الفاعلة لكل أفراد المجتمع المدني، وتوفير الميكانيكية (أو الماكنة) السياسية الضرورية للنمو الاقتصادي والعناية الاجتماعية، ونشر الوعي عبر مؤسسات الاعلام عن أهمية التكنوقراط، ودورهم العملي لتثبيت معايير القدرة والكفاءة.

وأخيرا، فالشاهد أن هذه الأمور ستساهم في تعميق العقلنة السياسية ونضوجها في العراق، وتساعد ليس أبناء البلد فحسب، بل حتى واشنطن ودولا أخرى في صياغة سياساتهم تجاه العراق والمنطقة العربية، بكثير من التفهم والتعقل.

* استاذ جامعي عراقي

المدير التنفيذي للمنبر الدولي

للحوار الإسلامي