بهية الحريري.. بين أنديرا غاندي والخنساء

TT

حملت النائبة بهية الحريري، عباءة شقيقها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. خاطبته منادية «سيدي وقائدي». عاهدته تحمل المسؤولية الكبيرة للنهوض والاستمرار والصمود، لتحقيق رؤيته لمستقبل هذا الوطن، أمام اضخم حشد عرفه لبنان في أول اطلالة جماهيرية لها، لمناسبة مرور شهر على جريمة الاغتيال.

ألقت كلمة الختام في التجمع، الكلمة الفصل، أعلنت برنامجاً متكاملاً ناضجاً ورزيناً، وجديراً بالتزامات القادة..

لم ترتد بهية الحريري العباءة، حملتها فقط. مثلت العائلة المفجوعة فرداً فرداً. مثلت المعارضة، فرداً فرداً. صوبت مسيرتها، هذبتها بخطاب من عيون المواقف الحازمة في الكلام السياسي. ارتقت بها الى مقام النقاء. طهرتها من شوائب الغرائزية. برأتها من صغائر التهم والحملات التي تتعرض لها. بلورت قضيتها التي ما كانت لتكون لولا دماء الشهيد. طالبت بلجنة تحقيق دولية لجلاء الحقيقة لتؤكد اشمئزازها من المزايدين والمتورطين، الذين يخافون هذه الحقيقة. طالبت بإقالة رؤساء الاجهزة الأمنية، رافضة «التضحية بالوطن والمواطن من اجل حماية حفنة من الموظفين، الذين يتقاضون أجورهم من الشعب ومن خيرات الوطن». نبذت نغمة الفتنة ودناءة التخوين وخفة الكلام المسؤول، أرست أسلوباً أبعد ما يكون عن التلاعب بعواطف الجماهير لتجييشهم وأقرب ما يكون إلى البوح.

مثلت من اصطفت من الموالاة لسورية بشخص رئيس مجلس النواب نبيه بري والأمين العام لحزب الله الشيخ حسن نصر الله، وارست مقاومتين متوازيتين في لبنان: «مقاومة الاحتلال، ومقاومة اعداء البناء والنهوض، وقيام الدولة الحديثة الآمنة». ساوت المعارضة بالمقاومة، وساوت بين العدو الاسرائيلي، والذين لم يعد لهم مكان في وطن الشهيد، لتكتمل عدة الوفاق الوطني الحقيقي، بقبول الآخر ورفض إلغائه.

خاطبت سورية الشعب. طمأنتها واحتضنتها. نسفت كلام البازارات، الذي أغرق سوق الموالاة. اعترفت فقط بالاخوة وحقوقها وسموها. تجاهلت سورية السلطة، لم تأت على ذكر الرئيس بشار الأسد في كلمتها، لكنها لم تتوان عن انتقاد اتهامه اللبنانيين بنكران الجميل والغدر من دون تسميات مباشرة.

وضعت بهية الحريري الوطن على السكة، حملت الرسالة واقسمت التزام العهد. فهي توقن أن لا بد من متابعة المسيرة وفاء لسيدها وقائدها.

لم تكن شقيقة الشهيد على المنبر. كانت مسكونة بالهم الأكبر، بقامة الراحل، وفداحة خسرانه التي تتجلى اكثر فأكثر يوماً بعد يوم. نأت عن الادعاء انها وريثته في المقام والمركز والوطن، لكنها ايقنت ان عليها ملء فراغ ما، كان لا بد سيدعوها اليه. عرفت واجبها وقبلت به. تماسكت في فجيعتها لأنها لم تعد تملك من نفسها الا صدى «السيد والقائد» وارتداداته. توهجت به في أسود الحداد. وقفت في منتصف المسافة بين صلابة الزعيمة الهندية انديرا غاندي، واستسلام الشاعرة العربية الخنساء الى حدة حزنها على شقيقها ورد.

بدت بهية الحريري زعيمة محتملة ومكتملة. ربما لأن «لبنان يفتقر الى رجال الدولة الكبار»، كما قالت في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة في 28 فبراير الماضي، حيث اسقط وللمرة الاولى في تاريخ لبنان رئيس حكومة في البرلمان، هو عمر كرامي، الذي أعيد تكليفه بكلمة سر، لم تنته مفاعيلها، وان انتهت فترة صلاحيتها تحت وطأة وعي غاضب فجرته فظاعة الجريمة.

لم ترتد العباءة. لكنها تعرف أن لا بد من حملها. تعرف أن الساحة الوحيدة في لبنان، التي تفتقر في الظروف الحالية المصيرية إلى «رجال الدولة الكبار» هي ساحة المسلمين السنة، وازاء هذا الواقع كان لا بد للسيدة التي نسجت خصوصيتها في الاداء السياسي اللبناني من خلال نيابتها في ظل صاحب العباءة، ان تكتفي من سيرة الخنساء بندى الدمع، وان ترتدي المأساة. فهي اعلنت قبل وقت طويل رفض الاستقلال عن العباءة، واعترضت على ما كتبته عنها في العدد 8588 من «الشرق الأوسط» بتاريخ 3/6/2002، تحت عنوان «لم ترث لكنها خرجت من عباءة شقيقها»، من «انها تجاوزت ما منحتها اياه بطاقة هويتها، واثبتت بشخصها وكفاءتها الفعلية ان تكون ممثلة للشعب، وليس فقط شقيقة رفيق الحريري»، فاتصلت آنذاك بي معاتبة بمحبة، وموضحة «انها فخورة بالبقاء تحت العباءة، وغنية بكونها شقيقة رفيق الحريري، وكل نشاطاتها في الشأن العام مستمدة من مسيرته وموظفة لخدمة هذه المسيرة، التي تصب في بناء وطن كان يرنو اليه صاحب العباءة».

لكن اقدار الكبار على ما يبدو لا تعكس حسابات العامة، اقدارهم حزن يهد الجبال ويطوى. لأن عليهم ان يعضوا على جراحهم وان ينهضوا من فجائعهم، وان يحملوا الاهداف والراية، يوحدون في ظلها الجماهير التي تستمد قوتها من صلابتهم. تعرف بهية الحريري ذلك، لذا حملت العباءة. لكن ماذا ينتظرها عند مفترق الوطن؟ خاضت غمار المعركة مع انها تعرف ايضاً كيفية التعاطي مع النادي السياسي اللبناني من خلال تجربة شخصية ومن خلال رؤية «شهيد الطائف والوفاق الوطني»، الذي اراد لها ان تكون في الندوة البرلمانية. لذا لم ترتد العباءة، لكنها لم تتخاذل وهي الادرى بتعقيدات مخاض انتقال لبنان من ضفة إلى أخرى. تعرف ان هذا الانتقال ينجزه شعب، استحق أن يكون شعب رفيق الحريري، وبلغ سن الرشد وفرض ارادته، على عكس ما يريد البعض ترويجه، من انه استورد قراراته.

حملت بهية الحريري العباءة وحملت يقينها باستحالة قدرتها على الحلول مكان الشهيد، ليس فقط على صعيد الارث العائلي والانساني، وإنما على صعيد الارث الوطني والاقليمي والعالمي. كما حملت وعيها بضرورة احاطة نفسها بأهل الثقة والحكمة والادراك، حتى تتمكن من الوقوف في المكان الاكثر حساسية والاكثر تطلباً لنقاش سياسي على مستوى التداعيات لتلم الوطن واحزانه الى حضنها.

ويبقى السؤال: ماذا ينتظر هذا السيدة الداخلة من باب المأساة الى باب خلاص لبنان؟ ماذا ينتظرها بعد أن رفعت يدها، وأقسمت اليمين؟